الأحد، 1 مايو 2022

كتاب : روض السائلين لفتاوى سيد المرسلين المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

كتاب : روض السائلين لفتاوى سيد المرسلين

المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

------
فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى فَصَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه
1 - سُئل عن رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى، فقال: «هل تُضارون في رؤية الشمس صحواً في الظهيرة ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. فقال: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب؟؟» قالوا: لا، قال: «فإنكم ترونه كذلك» .
2 - وسئل كيف نراه ونحن ملء الأرض وهو واحد؟ فقال: «أنبئكم عن ذلك في آلاء الله، الشمس والقمر آية منه صغيرة تَرَونهما، ويريانكم ساعة واحدة لا تضارّون في رؤيتهما، ولعمْر الهك لهو أقدرُ على أن يراكم وترونه» .
3 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن مسألة القدر، وما يعمل الناس فيه، أمر قد قضى وفرغَ منه أم أمر يستأنف؟ فقال: «بل أمر قد قضى وفرغ منه» فسئل حينئذ: ففيم العمل؟ فأجاب بقوله: «اعملوا فكلُّ ميسرٌ لما خلق له، أما مَن كان من أهل السعادة فسيُيسَّرُ لعمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فييسَّر لعمل أهل الشقاوة» . ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}(الليل: 5) إلى آخر الآيتين.
4 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عما يكتمه الناس في ضمائرهم، هل يعلمه الله؟ فقال: «نعم» .
5 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أين كان ربنا قبل أن تخلق السموات والأرض؟ فلم ينكر على السائل، وقال: «كان في عماءٍ ما فوقه هواء وما تحته هواء» .
6 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن مبدأ تخليق هذا العالم، فأجاب بأن قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء» .
7 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أين يكون الناس يوم تبدَّلُ الأرضُ؟ فقال: «على الصراط،» وفي لفظ آخر: «هم في الظلمة دون الجسر» فسئل: مَنْ أولُ الناس إجازة، فقال: «فقراء المهاجرين» ، ولا تنافي بين الجوابين؛ فإن الظلمة أول الصراط؛ فهناك مبدأ التبديل، وتمامه وهم على الصراط.
8 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } (الانشقاق: 8) فقال: «ذلك العرْض» .
9 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: «زيادة كبد الحوت» ، فسئل صلى الله عليه وسلم: ما غذاؤهم على أثره؟ فقال: «يُنحر لهم ثوْر الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» ، فسئل صلى الله عليه وسلم: ما شرابهم عليه فيها؟ فقال: «من عينٍ فيها تسمى سَلسبيلا» .
10 - وسئل هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنَّى أراه» . فذكر الجوار، ونبَّه على المانع من الرؤية، وهو النور الذي هو حجاب الرب تعالى الذي لو كشفه لم يقم له شيء.
11 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول لله كيف يجمعنا ربنا بعد ما تُمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مَدَرة بالية فقلت: لا تحيى أبداً، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياماً، ثم أشرفت عليها وهي شربة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقْدَرُ على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض».
12 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ فقال: «تُعْرَضون عليه باديةً له صفحاتكم لا تخفى عليه خافية منكم، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء، فينضَحُ بها قلبكم، فَلَعمْر الهك ما يُخْطىء وجه واحد منكم منها قطرةٌ، فأما المسلم فتدَعُ وجهه مثل الريْطة البيضاء، وأما الكافر فتحطمه بمثل الحميم الأسود» .
13 - وسئل بم نبصر، وقد حبس الشمس والقمر؟ فقال للسائل: «بمثل بَصَرِك ساعتَك هذه، وذلك مع طلوع الشمس، وذلك في يوم أشرقت فيه الأرضُ، ثم واجهته الجبال» ، فسئل صلى الله عليه وسلم: بم نجزى من حسناتنا وسيئاتنا؟ فقال: «الحسنَةُ بعشرة أمثالها، والسيئة بمثلها أو يعفو» ، فسئل صلى الله عليه وسلم على ماء يطلع من الجنة، فقال: «على أنهارٍ من عَسَل مُصَفَّى، وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة لعَمر الهك مما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة» ، فسئل صلى الله عليه وسلم: ألَنا فيها أزواج؟ فقال: «الصالحات للصالحين، تَلَذُّونهن مثل لَذَّاتكم في الدنيا، وَيَلذُّونكم، غير أن لا توالُدَ» .
14 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية إتيان الوَحي إليه، فقال: «يأتيني أحياناً مثل صلصلة الجرس؛ وهو أشدُّه عليَّ، فَيَفْصِمُ عني وقد وَعيْتُ ما قال، وأحياناً يتمثل لي المَلكُ رجلاً» .
15 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن شبه الولد بأبيه تارة وبأمه تارة، فقال: «إذا سبقَ ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل فالشبه لها» . وأما ما رواه مسلم في صحيحه أنه قال: «إذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل آنث بإذن الله» . فكان شيخنا يتوقف في كون هذا اللفظ محفوظاً، ويقول: المحفوظ هو اللفظ الأول. والإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنما هو بأمر الرب تبارك وتعالى للمَلِك أن يخلقه كما يشاء؛ ولهذا جعل مع الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قلت: فإن كان هذا اللفظ محفوظاً فلا تنافي بينه وبين اللفظ الأول، ويكون سبق الماء سبباً للشَّبه، وعلوه على ماء الآخر سبباً للإذكار والإيناث، والله أعلم.
16 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون، فيصاب من ذَرَاريهم ونسائهم، فقال: «هم منهم» . حديث صحيح، ومراده صلى الله عليه وسلم بكونهم منهم: التبعية في أحكام الدنيا، وعدم الضمان، لا التبعية في عقاب الآخرة؛ فإن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
17 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } (النجم: 13) فقال: «إنما هو جبريل عليه السلام، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين» . ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } (الزمر: 30، 31) سئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصِّ الذنوب؟ فقال: «نعم ليكررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه» فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد .
18 - وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال: «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادراً على أن يمشيه في الآخرة على وجهه؟» .
19 - وسئل صلى الله عليه وسلم هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ فقال: «أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحداً، حيث يوضع الميزان حتى يعلم: أيثقُل ميزانه أم يخف، وحيث يتطاير الكتب حتى يعلم كتابه من يمينه أو من شماله أو من وراء ظهره، وحيث يوضع الصراط على جسر جهنم، على حافتيه كلاليبُ وحَسَك، يحبس الله به من يشاء من خلقه، حتى يعلم أينجو أم لا ينجو» .
20 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يحب القوم، ولما يعمل بأعمالهم، فقال: «المرء مع من أحبَّ» .
21 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الكوثر، فقال: «هو نهر أعْطانيه ربي في الجنة، هو أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناقِ الجزرِ» ، قيل: يا رسول الله إنها لناعمة، قال: «آكلُها أنْعَم منها» .
22 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدْخل الناسَ النارَ؟ فقال: «الأجوَفان: الفم والفَرْج» وعن أكثر ما يُدْخلهم الجنة، فقال: «تقوى الله وحسن الخلق» .
23 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن المرأة تتزوج الرجلين والثلاثة، مع مَنْ تكون منهم يوم القيامة؟ فقال: «تخير، فتكون مع أحسنهم خلقاً» .
24 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» ؛ قيل: ثم ماذا؟ قال: «أن تقتل ولدك خَشْيَة أن يطعم معك» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «أن تَزْني بحليلة جارك» .
25 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «الصلاة على وَقْتها» ، وفي لفظ: «لأول وقتها» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» ، قيل: ثم ماذا؟ قال: «برُّ الوالدين» .
26 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً }(مريم: 28) وبين عيسى وموسى عليهما السلام ما بينهما، فقال: «كانوا يسمون بأنبيائهم، وبالصالحين قبلهم» .
27 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أول أشراط الساعة، فقال: «نار تحشُرُ الناس من المشرق إلى المغرب» . وهذه إحدى مسائل عبد الله بن سلام الثلاث. والمسألة الثانية: ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟. والثالثة: سبب شبه الولد بأبيه وأمه، فولّدها الكاذبون، وجعلوها كتاباً مستقلاً، سموه مسائل عبد الله بن سلام، وهي هذه الثلاثة في صحيح البخاري.
28 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» .
29 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت» .
30 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .
31 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } (المؤمنون: 60)، فقال: «هم الذين يَصُومون، ويصلون، ويتصدقون، ويخافون أن لا يقبل منهم» .
32 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى? ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ } (الأعراف: 172) الآية، فقال: «إن الله تعالى خَلَقَ آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون» ، فقال رجل: يا رسول الله ففيمَ العملُ؟ فقال: «إن الله إذا خلق العبدَ للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار» .
33 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(المائدة: 105) فقال: «بل ايتَمِرُوا بالمعروف، وتناهَوْا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحَّا مُطاعاً، وهَوىً متبعاً، ودُنْيا مؤثرة، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام» .
34 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الأدوية، والرُّقى، هل ترد من القدر شيئاً؟ فقال: «هي من القدر» .
35 - وسئل صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . وليس هذا قولاً بالتوقف كما ظنه بعضهم، ولا قولاً بمجازاة الله لهم على ما يعلمه منهم أنهم عامِلوه لو كانوا عاشوا، بل هو جواب فصل وأن الله يعلم ما هم عاملوه، وسيجازيهم على معلومه فيهم بما يظهر منهم يوم القيامة، لا على مجرد علمه، كما صرحت به سائر الأحاديث واتفق عليه أهل الحديث أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.
36 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن سَبَأ: هل هو أرض أم امرأة، فقال: «ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب؛ فتيامَنَ منهم ستة، وتشاءَم منهم أربعة؛ فأما الذين تشَاءموا فلخْمٌ وجُذَام وغسَّان وعامِلَةُ، وأما الذين تيامنوا، فالأزْدُ والأشْعَرِيُّونَ وحِمْيَر وكِنْدَة ومَذْحِج وأنمار» . فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ فقالَ: «الذين منهم خَثْعَم وبجيلة» .
37 - وسئل عن قوله تعالى: {مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } (يونس: 164) فقال صلى الله عليه وسلم: «هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرَى له» .
38 - وسئل عن أفضل الرقاب، يعني في العتق، فقال: «أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً» .
39 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الجهاد، فقال: «مَنْ عُقِرَ جوادُه وأريق دمه» .
40 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة، فقال: «أن تتصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغِنى» .
41 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الكلام أفضل؟ فقال: «ما اصطفى الله للملائكة: سبحان الله وبحمده» .
42 - وسئل صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ وفي لفظ: متى كنت نبياً؟ فقال: «وآدم بين الروح والجسد» . هذا هو اللفظ الصحيح، والعوام يَرْونه: بين الماء والطين، قال شيخنا: وهذا باطل، وليس بين الماء والطين مرتبة، واللفظ المعروف ما ذكرناه.
43 - وذكر الإمام أحمد في مسنده أن أعرابياً سأله: يا رسول الله أخْبِرْني عن الهجرة إليك أينما كنت أم لقوم خاصة أم إلى أرض معلومة أم إذا مت انقطعت؟ فسأل ثلاث مرات ثم جلس، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيراً ثم قال: «أين السائل؟» قال: ها هو ذا حاضر يا رسول الله، قال: «الهجرة أن تهجر الفواحشَ ما ظَهَرَ منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مُتَّ في الحضر» فقام آخر فقال: يا رسول الله أخبرني عن ثياب أهل الجنة، أتخْلقُ خلْقاً أم تُنْسَجُ نسجاً؟ قال: فضحك القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضحكون من جاهل يسأل عالماً؟» فاستلبث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساعةً، ثم قال: «أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟» فقال: ها هو ذا يا رسول الله، قال: «لا، بل تنشق عنها ثمار الجنة» ، ثلاث مرات.
44 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أُنْفضي إلى نسائنا في الجنة؟ وفي لفظ آخر: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: «إي والذي نفسي بيده إن الرجل لَيُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عَذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: رجال إسناده عندي على شرط صحيح.
45 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أنطأ في الجنة؟ فقال: «نعم، والذي نفسي بيده، دَحْماً دَحْماً، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً» ، ورجال إسناده على شرط صحيح ابن حبان.
46 - وفي معجم الطبراني أنه سُئل: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «بذَكَرٍ لا يميل، وشهوة لا تنقطع، دَحْماً دَحْماً» . قال الجوهري: الدَّحْم: الدفع الشديد.
47 - وفيه أيضاً أنه سئل صلى الله عليه وسلم: أيجامع أهل الجنة؟ فقال: «دَحْماً دَحْماً، ولكن لا مَنِيَّ ولا منية» .
48 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة؟ فقال: «النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون» .
49 - وسئل صلى الله عليه وسلم: هل في الجنة خيل؟ فقال: «إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت» .
50 - وسئل صلى الله عليه وسلم: هل في الجنة إبل؟ فلم يقل للسائل مثل ما قال للأول، بل قال: «إن يدْخِلْكَ الله الجنةَ يكن لك فيها ما اشتهت نفسك وقرت عينك» .
51 - وفي معجم الطبراني أن أم سلمة رضي الله عنها سألته فقالت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } قال: «حورٌ: بيض، عينٌ: ضِخام العيون شعر الحوراء بمنزلة جناح النسر».
52 - قلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ }(الواقعة: 23) فقال: «صفاؤهن صفاء الدُّر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» .قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }( الرحمن: 70) قال: «خَيِّرات الأخلاق حسان الوجوه». قلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } ؟ (الصافات: 49) قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشرة» . قلت: أخبرني يا رسول الله عن قوله تعالى: {عُرُباً أَتْرَاباً } 3 4 } (الواقعة: 37) قال: «هُنَّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز رمْصاً شمطاً ، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن الله عذَارى، عُرُباً متعشقات متحببات» أتراباً: على ميلاد واحد. قلت: يا رسول الله: نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظِّهارة على البطانة» . قلت: يا رسول الله، وبم ذاك؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله تعالى، ألبسَ الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير، بيض الألوان، خضر الثياب، صُفر الحليِّ مجامرهنَّ الدُّر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا» . قلت: يا رسول الله: المرأة منا تتزوج الرجلين، والثلاثة والأربعة، ثم تموت، فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها؟ قال: «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً، فتقول: يا رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة».
53 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }(الزمر: 67) أين الناس يومئذ؟ قال: «على جسر جهنم» .
54 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: «إذا سرَّتكَ حسناتُك، وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن» .
55 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: «إذا حاكَ في قلبك شيء فدعه» .
56 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: «البر ما اطمأن إليه القلبُ واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردَّد في الصدر» .
57 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر: هل نعمل في شيء نستأنفه أم في شيء قد فرغ منه؟ قال: «بل في شيء قد فرغ منه» قال: ففيمَ العمل؟ قال: «يا عمر لا يدرك ذلك إلا بالعمل» ، قال: إذاً نجتهد يا رسول الله.
58 - وكذلك سأله سُراقة بن مالك بنُ جعشم فقال: يا رسول الله أخبرنا عن أمرنا كأننا ننظر إليه، إبما جرت به الأقلام، وثبتت به المقادير أم بما يستأنف؟ فقال: «لا، بل بما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير» ، قال: ففيم العمل إذاً قال: «اعملوا فكلٌّ مُيسَّر» ، قال سراقة: فلا أكون أبداً أشدَّ اجتهاداً في العمل مني الآن.
فصل من فتاوى إمام المتقين صلى الله عليه وسلم في الطهارة
59 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: «هو الطَّهُور ماؤه والحِلُّ مَيته» .
60 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من بئر بُضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيضُ والنتن ولحوم الكلاب، فقال: «الماء طَهور لا ينجسه شيء» .
61 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الماء يكون بالفلاة، وما يَنوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذا كان الماء قُلَّتين لم ينجسه شيء» .
62 - وسأله أبو ثعلبة فقال، إنا بأرض قوم أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: «إن لم تجدوا غيرها فارْحَضوها بالماء، واطبخوا فيها، واشربوا» .
63 - وفي الصحيحين: إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: «لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرَها، فاغسلوها ثم كلوا فيها» .
64 - وفي المسند والسنن، أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها، فقال: «إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها» .
65 - وفي الترمذي: سئل عن قُدور المجوس، فقال: «أنقوها غسلاً، واطبخوا فيها» .
66 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: «لا يَنصرف حتى يَسمع صوتاً أو يجد ريحاً» .
67 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن المَذي، قال: «يجزىء منه الوضوء» ، فقال له السائل: فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ فقال: «يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه» .
68 - وسئل صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل، وعن الماء يكون بعد الماء، فقال: «ذاك المَذْي وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فَرْجَكَ وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة» .
69 - وسألته فاطمة بنت أبي حبيْش فقالت: إني امرأة أستحاضُ فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: «لا، إنما ذلك عِرْق وليس بحيضة، فإذا أقبلت حَيضتُكِ فدَعِي الصلاة، فإذا أدبرَتْ فاغسلي عنك الدم ثم صلي» .
70 - وسئل عنها أيضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تدعُ الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي» .
71 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الغنم، فقال: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» .
72 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: «نعم توضأ من لحوم الإبل» .
73 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مَرابض الغنم، فقال: «نعم صلوا فيها» .
74 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: «لا» .
75 - وسئل صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا قد أتاه منها، غير أنه لم يجامعها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ } (هود: 114) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «توضأ ثم صلِّ» فقال معاذ: فقلت يا رسول الله أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: «بل للمؤمنين عامة» .
76 - وسألته صلى الله عليه وسلم أم سُليم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غُسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا رأت الماء» ، فقالت أم سلمة: أو تحتلم المرأة؟ فقال: «تَربَت يداكِ، فبم يشبهها ولدها؟» .
77 - وفي لفظ أن أم سليم سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل» .
78 - وفي المسند أن خَوْلَة بنت حكيم سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقال: «ليس عليها غسل حتى تنزل، كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل» .
79 - وسأله أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن المذي، فقال: «من المذي الوضوء، ومن المنيِّ الغسل» ، وفي لفظ: «إذا رأيت المذْيَ فتوضأ، واغسل ذكرك، وإذا رأيت نضح الماء فاغتسل» .
80 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً، فقال: «يغتسل» وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد البللَ، فقال: «لا غسلَ عليه» .
81 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، وعائشة جالسة، فقال: «إني أفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» .
82 - وسألته أم سلمة فقالت: يا رسول الله إني امرأة أشدّ ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: «لا، إنما يكفيكِ أن تَحثِي على رأسك ثلاثَ حَثيات ثم تفيضين عليكِ الماء» وعند أبي داود: «اغمزِي قرونَكِ عند كل حَفنة» .
83 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد مُنْتنة، فكيف نفعل إذا مُطِرنا؟ فقال: «أليس بعد طريق هي أطيب منها؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «هذه بهذه» ، وفي لفظ: «أليس بعده ما هو أطيب منه؟» قلت: بلى، قال: «فإن هذا يذهب بذاك» .
84 - وسئل صلى الله عليه وسلم فقيل له: إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة، فقال: «الأرض يطهر بعضها بعضاً» .
85 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إحدانا يصيب ثوبَها من دم الحيضة، كيف تصنع به؟ فقال: «تحتُّه، ثم تقرضه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه» .
86 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمْن، فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» ، ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع.
87 - وسألته صلى الله عليه وسلم ميْمونة عن شاة ماتت فألقوا إهابها، فقال: «هلا أخذتم مسكها» فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنما قال تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (الأنعام: 145) «وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به» فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها.
88 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن جلود الميتة، فقال: «ذكاؤها دِباغها» .
89 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة، فقال: «أولا يجدُ أحدكم ثلاثة أحجار، حجران للصفحتين، وحجر للمسرُبة» ؟ حديث حسن، وعند مالك مرسلاً: «أو لا يجدُ أحدكم ثلاثة أحجار» ؟ ولم يزد.
90 - وسأله سراقة عن التغوُّط؛ فأمره أن يتنكَّبَ القبلة، ولا يستقبلها، ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يتنجى بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من تراب.
91 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الوضوء، فقال: «أسْبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً».
92 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمرو بن عَنْبَسة فقال: كيف الوضوء؟ قال: «أما الوضوء فإنك إذا توضأت فغسلْت كفيك، فأنقيتهما خرجتْ خطاياك من بين أظافرك وأنامِلك، فإذا تمضمضْتَ واستنشقت، وغسلت وجهك ويديك إلى المرفقين، ومسحْتَ رأسك، وغسلت رجليك اغتسلت من عامة خطاياك كيوم ولدتك أمك» .
93 - وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: «هكذا الوضوء؛ فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم» .
94 - وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله، الرجل منا يكون في الصلاة فيكون منه الرُّويحةُ ويكون في الماء قِلة، فقال: «إذا فسا أحدُكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعْجازهن؛ فإن الله لا يستحي من الحق»
95 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن المَسْح على الخفين، فقال: «للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوماً وليلة» .
96 - وسأله صلى الله عليه وسلم ابن أبي عمارة فقال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ فقال: «نعم» ، قال: يوماً؟ قال: «ويومين» قال: وثلاثة أيام؟ قال: «نعم وما شئت» وفي رواية: حتى بلغ سبعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم وما بدا لك» . فطائفة من أهل العلم أخذَتْ بظاهره وجوَّزوا المسح بلا توقيت، وطائفة قالت: هذا مُطلق، وأحاديث التوقيت مقَيَّدة، والمقيَّد يقضي على المطلق.
97 - وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: أكون في الرمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر، ويكون فينا النفساء والحائض والجنب، فما نرى؟ قال: «عليك بالتراب» .
98 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر: إني أغرب عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فقال: «إن الصعيد الطيب طهورٌ ما لم تجد الماء عشر حِجَجٍ، فإذا وجدت الماء فأمسَّه بشرتَك» .
99 - وسأله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: انكسرت إحدى زَنْديَّ، «فأمره أن يمسح على الجبائر» .
100 - وقال ثوبان: استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الجنابة فقال: «أما الرجل فلينشُرْ رأسه، فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتَغْزِفْ على رأسها ثلاث غرفات تكفيها» .
101 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني اغتسلت من الجنابة وصليت الصبح، ثم أصبحت فرأيت قدْر موضع الظفر لم يصبه ماء فقال: «لو كنْتَ مسحْتَ عليه بيدك أجزأك» .
102 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة عن الحيض، فقال: «تأخذ إحداكُنَّ ماءها وقِدرها فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلُكه دلْكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصبُّ عليها الماء، ثم تأخذ فِرصَة مُمسَّكةٍ فتطهر بها» .
103 - وسألته صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال: «تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب الماء على رأسها، فتدلكه، حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تُفيض الماء عليها» .
104 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض، فقال: «تشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها» .
105 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن مؤاكلة الحائض، فقال: «واكِلْها» .
106 - وسئل صلى الله عليه وسلم كم تجلس النفساء؟ فقال: «تجلس أربعين يوماً، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك» .
فتاوى متعلقة بالصلاة
107 - وسأله صلى الله عليه وسلم ثوبان عن أحبِّ الأعمال إلى الله تعالى، فقال: «عليك بكثرة السجود لله عز وجل؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجةً وحط بها عنك خطيئة» .
108 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد: أيما أفضل، الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال: «ألا ترى إلى بيتي ما أقربُه من المسجد؟ فلأنْ أصلِّي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة» .
109 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل في بيته، فقال: «نوِّروا بيوتكم» .
110 - وسئل صلى الله عليه وسلم: متى يصلّي الصبي؟ فقال: «إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة» .
111 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قتل رجل مخنث يتشبه بالنساء، فقال: «إني نهيتُ عن قتل المصلين» .
112 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فقال للسائل: «صلِّ معنا هذين اليومين» ، فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرَدَ بالظهر، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: «أين السائل عن وقت الصلاة؟» فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: «وقتُ صلاتكم ما رأيتم» .
113 - وسئل صلى الله عليه وسلم: هل من ساعة أقرب إلى الله من الأخرى؟ قال: «نعم، أقربُ ما يكون الرب عز وجل من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» .
114 - وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى، فقال: «هي صلاة العصر» .
115 - وسئل صلى الله عليه وسلم: هل في ساعات الليل والنهار ساعة تكره الصلاة فيها؟ فقال: «نعم إذا صليت الصبح فدع الصلاة، حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، ثم صلِّ، فإن الصلاة محضورة متقبلة، حتى تستوي الشمس على رأسِك كالرُّمح، فدع الصلاة فإن تلك الساعة تُسجرُ جهنم وتفتح فيها أبوابها، حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت الشمس فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس» وفيه دليل على تعليم النهي بفعل صلاة الصبح لا بوقتها.
116 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني، فقال: «قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» ، فقال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ فقال: «قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني» ، فقال بيده هكذا وقبضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد تملأ يديه من الخير».
117 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمران بن حصين -ـ وكان به بواسير -ـ عن الصلاة فقال: «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك» .
118 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أقرأ خلف الإمام أو أنصت؟ قال: «بل أنصت، فإنه يكفيك» .
119 - وسأله صلى الله عليه وسلم حطان، فقال: يا رسول الله إنا لا نزال سفراً فكيف نصنع بالصلاة؟ فقال: «ثلاث تسبيحات ركوعاً،، وثلاث تسبيحات سجوداً» .
120 - وسأله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بين صلاتي وبين قراءتي يُلبِّسها عليَّ، فقال: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته، فتعوَّذ بالله، واتفل على يسارك ثلاثاً» . قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله.
121 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أصلي في ثوبي الذي آتى فيه أهلي؟ قال: «نعم، إلا أن ترى فيه شيئاً فتغسله» .
122 - وسأله صلى الله عليه وسلم معاوية بن حَيْدة: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكتْ يمينك» . قال: قلت: يا رسول الله الرجل يكون مع الرجل، قال: «إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل» قال: قلت: فالرجل يكون خالياً، قال: «الله أحق أن يُستحيا منه» .
123 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد، قال: «أوَكلكم يجد ثوبين» .
124 - وسأله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع: يا رسول الله إني أكون في الصيد فأصلي، وليس عليَّ إلا قميص واحد، فقال: «فازْرُوهُ، وإن لم تجد إلا شوكة» وعند النسائي: إني أكون في الصيف وليس عليّ إلا قميص.
125 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: يا رسول الله أصلي في الفراء؟ قال: «فأين الدباغ؟» .
126 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القوس والقَرنِ، فقال: «اطرح القَرن وصلِّ في القوس» . والقرن -ـ بالتحريك -ـ: الجعبة.
127 - وسألته أم سلمة: هل تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: «إذا كان الدِّرعُ سابلاً يغطي ظهر قدميها» .
128 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض، قال: «المسجد الحرام» ، فقال: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» ، فقال: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاماً» ، «ثم الأرض لك مسجد، حيث أدركتك الصلاة فصلِّ» .
129 - وذكر الحاكم في مستدركه أن جعفر بن أبي طالب سأله عن الصلاة في السفينة فقال: «صلِّ فيها قائماً إلا أن تخاف الغرق» .
130 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة فقال: «واحدة أو دع» .
131 - وسأله صلى الله عليه وسلم جابر عن ذلك فقال: «واحدة، ولأن تمسك عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق» . فقلت: المسجد كان مفروشاً بالحصباء فكان أحدهم يمسحه بيديه لموضع سجوده، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في مسحة واحدة وندبهم إلى تركها، والحديث في المسند.
132 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» .
133 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يصلي أحدُنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، أفأصلي معهم؟ فقال: «لك سهمٌ جمع» .
134 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر عن الكلب الأسود يقطع الصلاة دون الأحمر والأصفر، فقال: «الكلب الأسود شيطان» .
135 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله إني صليت فلم أدر أشفعت أو أوترت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم أن يتلعَّبَ بكم الشيطان في صلاتكم، مَنْ صلى فلم يدر أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين فإنهما تمام صلاته» .
136 - وسئل صلى الله عليه وسلم لأي شيء فضلت يوم الجمعة؟ فقال: «لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله «عز وجل» فيها استجيب له» .
137 - وسئل أيضاً عن ساعة الإجابة، فقال: «حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها» ، ولا تنافي بين الحديثين؛ لأن ساعة الإجابة، وإن كانت آخر ساعة بعد العصر فالساعة التي تقام فيها الصلاة أولى أن تكون ساعة الإجابة كما أن المسجد الذي أسِّس على التقوى هو مسجد قباء، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بذلك منه، وهو أولى من جمع بينهما بتنقلها، فتأمل.
138 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أخبرنا عن يوم الجمعة، ما فيها من الخير؟ فقال: «فيه خمس خلال: فيه خلق آدم، وفيه أهبط آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، فما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا حجر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة» .
139 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال: «مَثنى مَثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» .
140 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو أمامة: بكم أوتر؟ قال: «بواحدة» قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: «ثلاثة» ، ثم قال: «بخمس» ، ثم قال: «بسبع» ، وفي الترمذي أنه سئل عن الشفع والوتر، فقال: «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» . وفي سنن الدارقطني: أن رجلاً سأله عن الوتر، فقال: «افصِلْ بين الواحدة والثنتين بالسلام» .
141 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: «طولُ القنوتِ» .
142 - وسئل: أي القيام أفضل؟ قال: «نصف الليل، وقليل فاعله» .
143 - وسئل صلى الله عليه وسلم هل من ساعة أقرب إلى الله (تعالى) من الأخرى؟ قال: «نعم جوف الليل الأوسط» .
فصل: فتاوى تتعلق بالموت وبالموتى
144 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن موت الفجاءة، فقال: «راحة للمؤمن، وأخْذَةُ أسفٍ للفاجر» . ولهذا لم يكره أحمد موت الفجاءة في إحدى الروايتين عنه، وقد روي عنه كراهتها، وروي في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدار أو حائط مائل، فأسرع المشي، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أكره موتَ الفوات» ، ولا تنافي بين الحديثين فتأمله.
145 - وسئل: تمر بنا جنازة الكافر، أفنقوم لها؟ قال: «نعم، إنكم لستم تقومون لها، إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس» ، وقام لجنازة يهودية؛ فسئل عن ذلك، فقال: «إن للموت فزعاً، فإذا رأيتم فقوموا» .
146 - وسئل: عن امرأة أوْصتْ أن يعتق عنها رقبة مؤمنة، فدعا بالرقبة، فقال: «مَنْ ربك» ؟ قالت: الله، قال: «من أنا؟» قالت: رسول الله، قال: «أعتقها فإنه مؤمنة» .
147 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه: هل ترَدُّ إلينا عقولنا في القبر وقت السؤال؟ فقال: «نعم كهيئتكم اليوم» .
148 - وسئل عن عذاب القبر، فقال: «نعم عذاب القبر حق» .
فصل: فتاوى عن الصدقة والزكاة
149 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن صدقة الإبل، فقال: «ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها -ـ ومن حقها حلبها يوم ورودها -ـ إلا إذا كان يوم القيامة بُطحَ لها بقاع قرْقر أوْفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تَطؤُه بأخفافها وتعَضه بأفواهها، كلما مر عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخْراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» .
150 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن البقر، فقال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرْقَر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عَقْصاء ولا جَلحاء ولا عَضْباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مرت أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» .
151 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الخيل فقال: «الخيل ثلاثة: هي لرجل وزْر، ولرجل ستر، ولرجل أجر» . «فأما الذي له أجر، فرجل رَبطها في سبيل الله، فأطال لها في مرْج أو روضة، فما أصابت في طيلها، فاستنَّتْ شرفاً أو شرفين كانت له آثارها وأرواؤها حسنات، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كانت له حسنات؛ فهي لذلك الرجل أجر». «ورجل رَبطها تغنياً وتعففاً، ثم لم يَنْسَ حق الله في رقابها، ولا في ظهورها؛ فهي لذلك الرجل ستر». «ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر».
152 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر؛ فقال: «ما أنزل الله عليَّ فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } » (الزلزلة: 7، 8).
153 - وسألته صلى الله عليه وسلم أمُّ سلمة فقالت: إني ألبس أوْضاحاً من ذهب، أكنزٌ هو؟ قال: «ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» .
154 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ قال: «نعم» ثم قرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءَاتَى الزكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (البقرة: 177).
155 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقال: إن لي حلياً، وإن زوجي خفيف ذات اليد، وإن لي ابن أخ، أفيجزىء عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟ قال: «نعم» .
156 - وذكر ابن ماجة أن أبا سيارة سأله فقال: إن لي نحلا، فقال: «أدِّ العشر» ، فقلت: يا رسول الله احمها لي، فحماها لي.
157 - وسأله صلى الله عليه وسلم العباس عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول، فأذن له في ذلك.
158 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر، فقال: «هي على كل مسلم، صغيراً أو كبيراً، حراً أو عبداً، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو أقطٍ» .
159 - وسأله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأموال فقالوا: إن أصحاب الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ قال: «لا» .
160 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أمنع؟ فقال: «تخرج الزكاة من مالك، فإنها طهْرة تطهرك، وتصلُ بها رحمك وأقاربك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» ، فقال: يا رسول الله أقلل في، قال:{وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } (الإسراء: 26) فقال: حسبي، وقال: يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال رسول الله: «نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، ولك أجرها، وإثمها على من بدَّلها» .
161 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصدقة على أبي رافع مولاه، فقال: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم» .
162 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر عن أرضه بخيبر، واستفتاهُ ما يصنع فيها وقد أراد أن يتقرب بها إلى الله، فقال: «إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها» ففعل. وتصدق عبد الله بن زيد بحائط له، فأتاه أبَواه فقالا: يا رسول الله إنها كانت قيم وجوهنا، ولم يكن لنا مال غيره، فدعا عبد الله فقال: «إن الله قد قبل منك صدقتك، وردّها على أبويك» ، فتوارثاها بعد ذلك.
163 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «المنيحَة» أن يمنح أحدكم الدرهم أو ظهر الدابة أو لبنَ الشاة أو لبنَ البقرة.
164 - وسئل صلى الله عليه وسلم مرة عن هذه المسألة، فقال: «جهدُ المقِل، وابدأ بمن تعول».
165 - وسئل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عنها، فقال: «أن تَتصدَّقَ وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى».
166 - وسُئل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عنها فقال: «سقي الماء» .
167 - وسئل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عنها، فقال.
168 - وسأله صلى الله عليه وسلم سُراقة بن مالك عن الإبل تَغشى حِياضه: هل له من أجر في سقيها؟ فقال: «نعم، في كل كبدٍ حَرَّى أجر» .
169 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأتان عن الصدقة على أزواجهما، فقال: «لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة» . وعند ابن ماجة: أتجزىء عني من النفقة الصدقة على زوجي وأيتامٍ في حجري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لها أجران، أجر الصدقة وأجر القرابة» .
170 - وسألته صلى الله عليه وسلم أسماء فقالت: ما لي مال إلا ما أدخل عليّ الزبير، أفأتصدَّق؟ فقال: «تصدقي ولا تُوعي فيوعَى عليك» .
171 - وسأله صلى الله عليه وسلم مملوك: أتصدق من مال مولاي بشيء؟ فقال: «نعم والأجْرُ بينكما نصفان» .
172 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه عن شراء فرس تصدق به، فقال: «لا تشتره ولا تَعُدْ في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيْئِهِ» .
173 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن المعروف، فقال: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تُعْطِي صِلَة الحبل، ولو أن تعطى شِسْع النعل، ولو أن تفْرغَ من دَلوك في إناء المستسقي، ولو أن تُنحِّيَ الشيءَ من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تَلقَى أخاك ووجهك إليه طَلق، ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوَحشان في الأرض» . فللَّه ما أجل هذه الفتاوى، وما أحلاها، وما أنفعها، وما أجمعها لكل خير، فوالله لو أن الناس صرفوا همهم إليها لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، والله المستعان.
174 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني تصدقت على أمي بعبد وإنها ماتت، فقال: «وَجَبَتْ صدقتك، وهو لك بميراثك» .
175 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال: «وَجَبَ أجركِ، وردَّها عليك الميراثُ» .
176 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أمي توفيت، أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم» .
177 - وسأله آخر فقال: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم» .
178 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فقال: إن أبي مات ولم يوصِّ، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم» .
179 - وسأله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام فقال: يا رسول الله أمور كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة؛ هل لي فيها أجر؟ قال: «أسلمْتَ على ما سلف لك من خير» .
180 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها عن ابن جُدْعَان؛ وأنه كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين؛ فهل ذلك نافعه؟ فقال: «لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» .
181 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الغنى الذي يحرم المسألة؛ فقال: «خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» . ولا ينافي هذا جوابه للآخر: ما يغديه أو يعشيه . فإن هذا غناء اليوم، وذاك غناء العام بالنسبة إلى حال ذلك السائل، والله أعلم.
182 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أرسل إليه بعطاء؛ فقال: أليس أخبرتنا أن خيراً لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئاً، فقال: «إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله» فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته.
فصل: فتاوى تتعلق بالصوم
183 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل؟ فقال: «شعبان لتعظيم رمضان» قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة في رمضان» . والذي في الصحيح أنه سئل: أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: «شهر الله الذي تَدْعونه المحرم» قيل: فأي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوْف الليل» . قال شيخنا : ويحتمل أن يريد بشهر الله المحرم أول العام، وأن يريد به الأشهر الحُرم، والله أعلم.
184 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله، دخلت عليَّ وأنتَ صائم، ثم أكلت حَيساً، فقال: «نعم، إنما منزلة مَنْ صام في غير رمضان، أو قَضى رمضان في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله، فجادَ منها بماء شاء فأمضاه، وبَخل بما شاء فأمسكه» . ودخل صلى الله عليه وسلم على أم هانىء فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: إني كنت صائمة، فقال: «الصائم المتطوع أميرُ نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» وذكر الدارقطني أن أبا سعيد صنع طعاماً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَنعَ لك أخوك طعاماً وتكلف لك أخوك أفطِر وصُمْ يوماً آخر مكانه» . وذكر أحمد أن حَفصةَ أُهدِيَتْ لها شاة، فأكلت منها هي وعائشة وكانتا صائمتين، فسألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: «أبدلا يوماً مكانه» .
185 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: قد اشتكيت عيني، أفأكتحل وأنا صائم، قال: «نعم» وذكر الدارقطني أنه سُئل أفريضةٌ الوضوءَ من القيْء؟ فقال: «لا،» لو كان فريضة لوجدته في القرآن . وفي إسناد الحديثين مَقال.
186 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر بن أبي سلمة، أيقبِّلُ الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل هذه» لأمِّ سَلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، قال: يا رسول الله، قد غَفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأتقاكم لله وأخشاكم له» . وعند الإمام أحمد أن رجلاً قبَّلَ امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته فسألت أم سلمة عن ذلك، فأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله، فأخبرت زوجها، فزاده ذلك شراً. وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله يحل لرسوله ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذه المرأة،» ؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: «ألا أخبرتها أني أفعل ذلك» . قالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فزاده ذلك شراً وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحل لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده» وذكر أحمد أن شاباً سأله فقال: أُقبِّلِ وأنا صائم؟ قال: «لا،» وسأله شيخ: أقبل وأنا صائم؟ قال: «نعم،» ثم قال: «إن الشيخ يملك نفسه» .
187 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلتُ وشربت ناسياً وأنا صائم، فقال: «أطعمك الله وسقاك» وعند الدراقطني فيه بإسناد صحيح: «أتِمَّ صومك، فإن الله أطعمك وسقاك، ولا قضاء عليك» وكان أول يوم من رمضان .
188 - وسألته صلى الله عليه وسلم عن ذلك امرأة أكلتْ معه فأمسكت، فقال: «ما لَكِ» فقالت: كنت صائمة فنسيت، فقال ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أتِمِّي صومَكِ؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليكِ» .
189 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الخيط الأبيض والخيط الأسود، فقال: «هو بَياضُ النهار وسوادُ الله» .
190 - ونهاهم عن الوصال. ووَاصَلَ، فسألوه عن ذلك؛ فقال: «إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني» .
191 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جُنب فأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» ، فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ فقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي» .
192 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، فقال: «إن شئت صمت وإن شئت أفطرت» .
193 - وسأله صلى الله عليه وسلم حمزةُ بن عمرو فقال: إني أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح؟ فقال: «هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحب أن يصومَ فلا جُناحَ عليه» .
194 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: «ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدكم دَينٌ قضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن ذلك قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر» .
195 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمكِ دَين فقضيتِه، أكان يؤدِّي ذلك عنها؟» فقالت: نعم، قال: فصومي عن أمك. وعن أبي داود أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إن الله عز وجل نجاها أن تصوم شهراً، فنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها.
196 - وسألته صلى الله عليه وسلم حفصة فقالت: إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقضيا مكانه يوماً» ولا ينافي هذا قوله: «الصائم المتطوع أمير نفسه، فإن القضاء أفضل» .
197 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: هلكت، وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال: «هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟» قال: لا، قال: «اجلس» ، فبينا نحن على ذلك إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفَرقٍ فيه تمر -ـ والفرق: المِكتل الضخم -ـ فقال: «أين السائل؟» قال: أنا، قال: «خُذْ هذا فتصدق به» ، فقال الرجل: أعلَى أفْقَرَ مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيْها -ـ يريد الحرَّتين -ـ أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابه، ثم قال: «أطعمه أهلك» .
198 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ فقال: «إن كنت صائماً بعد رمضان فصم المحرم، فإنه شهر فيه تاب الله على قوم، ويتوب فيه على قوم آخرين» .
199 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لم نَرَكَ تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ فقال: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترْفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» .
200 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أُنزل عليَّ القرآن» .
201 - وسأله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال: يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: «أي يومين؟» قال: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: «ذانِكَ يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» .
202 - وسئل صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس، فقال: «إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين» ، يقول: «حتى يصطلحا» .
203 - وسئل صلى الله عليه وسلم يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر؟ قال: «لا صام ولا أفطر» ، أو قال: «لم يصم ولم يفطر» ، قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: «ويطيق ذلك أحد؟» قال: كيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: «ذاك صوم داود عليه السلام» قال: كيف بمن يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، هذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة احتسبُ على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسبُ على الله أن يكفر السنة التي بعده» .
204 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أصوم يوم الجمعة ولا أُكلم أحداً؟ فقال: «لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر، وأما أن لا تكلم أحداً فلَعمْري أن تكلم بمعروف أو تنهى عن منكر خير من أن تسكت» .
205 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ فقال: «اذهبْ فاعتكف يوماً» .
فتاوى عن ليلة القدر
206 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، أفي رمضان أو في غيره؟ قال: «بل هي في رمضان» فقيل: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي إلى يوم القيامة» ، فقيل: في أي رمضان هي؟ قال: «التمسوها في العشر الأول» ، أو «في العشر الأواخر» . فقيل: في أي العشرين؟ قال: «ابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها» ، فقال: أقسمت عليك بحقِّي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي، فغضب غضباً شديداً وقال: «التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألنَّ عن شيء بعدها» والسائل أبو ذر.
207 - وعند أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ليلة القدر، فقال: «في كل رمضان» .
208 - وسئل عنها أيضاً فقال: «كم الليلة؟» فقال السائل: اثنان وعشرون، فقال «هي الليلة» ثم رجع فقال: «أو القابلة» ، يريد ثلاثاً وعشرين.
209 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس: متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال: «التمسوها هذه الليلة» ، وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين.
210 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها: إن وافقتها فيم أدعو؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعْف عني» .
فصل: فتاوى تتعلق بالحج
211 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: «لكن أفضل الجهاد وأجمله حَجٌّ مبرور» . وزاد أحمد: لكن هو جهاد.
212 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة: ما يعدل حجةً معك؟ فقال: «عمرة في رمضان» .
213 - وسألته صلى الله عليه وسلم أم معقل فقالت: يا رسول الله إن عليَّ حجة وإن لأبي معقل بَكْراً، فقال أبو معقل: صدقت قد جعلته في سبيل الله، فقال: «أعطها فلتحجَّ عليه فإنه في سبيل الله» ، فأعطاها البَكْر فقالت: يا رسول الله إني امرأة قد كبرت سني وسقمت، فهل من عمل يجزىء عني من حجتي؟ فقال: «عمرة في رمضان تجزىء حجة» .
214 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أكْرِي في هذا الوجه، وكان الناس يقولون: ليس لك حج، فسكت رسول الله فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } (البقرة: 198) فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وقال: «لك حج» .
215 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الحج أفضل؟ قال: «العَجُّ والثَّجُّ» فقيل: ما الحاج؟ قال: «الشَّعِث والتَّفِل» ، قال: ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» .
216 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن العُمرة، أواجبة هي؟ فقال: «لا، وأن تعتمر فهو أفضل» . قال الترمذي: صحيح. وعند أحمد أن أعرابياً قال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: «لا، وأن تعتمروا خير لكم» .
217 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرَّحل، والحج مكتوب علينا، أفأحج عنه؟ قال: «أنت أكبر ولدِه» ؟ قال: نعم، قال: «أرأيت لو كان على أبيك دَيْن فقضيته عنه، كان ذلك يجزىء عنه؟» قال: نعم، قال: «فحج عنه» .
218 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر فقال: أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجَّ ولا العمرة ولا الظعن، فقال له: «حجَّ عن أبيك واعتمر» . قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات.
219 - وسأله رجل فقال: إن أبي مات ولم يحجَّ، أفأحج عنه؟ فقال: «أرأيت إن كان على أبيك دَيْنٌ، أكنت قاضية» ؟ قال: نعم، قال: «فديْن الله أحق» .
220 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج،، أفأحج عنها؟ قال: «نعم، حُجِّي عنها» .
221 - وعند الدارقطني أن رجلاً سأله قال: هلك أبي ولم يحجَّ، قال: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أيقبل منك» ؟ قال: نعم، قال: «فاحْجُجْ عنه» . وهو يدل على أن السؤال والجواب إنما كانا عن القبول والصحة، لا عن الوجوب، والله أعلم.
222 - وأفتى صلى الله عليه وسلم رجلاً سمعه يقول: لبَّيك عن شُبرُمَة، قريب له، فقال: «أحَجَجْتَ عن نفسك» ؟ قال: لا، قال: «حجَّ عن نفسك، ثم حج عن شُبرمة» .
223 - وسألته امرأة عن صبي رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ، ولك أجرٌ».
224 - وسأله رجل فقال: إن أختي نَذَرَت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان عليها دَين أكُنت قاضيهُ؟» قال: نعم، (قال:) «فاقض الله فهو أحق بالقضاء» .
225 - وسئل: ما يلبس المحرم في إحرامه؟ فقال: «لا يلبس القَمِيصَ، ولا العمامة، ولا البرْنُسَ، ولا السروايلَ، ولا ثوباً مَسَّه وَرْس ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين» .
226 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عليه جُبَّة وهو متمخِّض بالخلوق، فقال: أحرمْتُ بعمرة وأنا كما ترى، فقال: «انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة» . وفي بعض طرقه: «واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك» .
227 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو قتادة عن الصيد الذي صاده وهو حلال، فأكل أصحابه منه وهم مُحْرمون فقال: «هل معكم منه شيء» ؟ فناوله العضد فأكلها وهو محرم.
228 - وسئل صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم، فقال: «الحية، والعقرب، والفُوَيْسِقة، والكلب العقور، والسَّبع العادي» زاد أحمد: «ويرمي بالغراب ولا يقتل» .
229 - وسألته صلى الله عليه وسلم ضُباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُجِّي واشترطي أن محلي حيث حبستني» .
230 - واستفتته أم سلمة في الحج وقالت: إني أشتكي، فقال: «طوفي من رواء الناس وأنت راكبة» .
231 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة، فقالت: يا رسول الله ألا أدخل البيت؟ فقال: «ادخلي الحجْر فإنه من البيت» .
232 - واستفتاه صلى الله عليه وسلم عُروة بن مضرّس فقال: يا رسول الله جئت من جَبَليْ طيء، أذْلَلْتُ مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، هل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أدرك معنا هذه الصلاة -ـ يعني صلاة الفجر -ـ وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، تمَّ حجه وقضى تَفثَه» .
233 - واستفتاه صلى الله عليه وسلم ناسٌ من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ فقال: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر، تمَّ حَجُّه: ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم أردف رجلاً خلفه ينادي بهن» .
234 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: «اذبح ولا حرجَ» وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: «ارْمِ ولا حرج» ، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدِّم ولا أُخِّرَ إلا قال: «افْعلْ ولا حَرج» وعند أحمد: فما سئل يومئذ عن أمر مما ينسىء المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض وأشباهها إلا قال: «افعل ولا حرج» . وفي لفظ: حلقت قبل أن أنحر، قال: «اذبح ولا حَرَج» . وسأله صلى الله عليه وسلم آخر قال: حلقت ولم أرْم، قال: «ارم ولا حرج» ، وفي لفظ: أنه سئل عمن ذَبَح قبل أن يحلق أو حلق قبل أن يذبح قال: «لا حرج» . وقال: كان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف، وأخرت شيئاً وقدَّمت شيئاً، فكان يقول: «لا حرج إلا على رجل اقترض عِرضَ مسلم، وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك» .
235 - وأفتى صلى الله عليه وسلم كعب بن عُجْرَةَ أن يحلق رأسه وهو محرم لأذى القمل: «أن ينسك بشاة، أو يُطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام» .
236 - وأفتى صلى الله عليه وسلم «من أهدى بدنة أن يركبها» .
237 - وسأله صلى الله عليه وسلم ناجيةُ الخُزَاعِيُّ: ما يصنع بما عطب من الهدى؟ فقال: «انحرها، واغمس نعلها في دمِها، واضرب به صَفُحَاتها، وخلِّ بينها وبين الناس فيأكلوها، ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته» .
238 - وسأله عمر فقال: إني أهديت نجيباً، فأعطيتُ بها ثلاثمائة دينار، فأبيعها فأشتري بها بُدناً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، انحرها إياها» .
239 - وسأله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم: ما هي الأضاحي؟ فقال: «سُنَّةُ أبيكم إبراهيم صلاة الله وسلامه عليه» ، قال: فما لنا منها، قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا: يا رسول الله فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» .
240 - وسأله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: عن يوم الحج الأكبر؛ فقال: «يوم النحر» وعند أبي داود بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقفَ يوم النحر بين الجَمرات في الحجة التي حَجَّ فيها، فقال: «أي يوم هذا» ؟ قالوا: يوم النحر، فقال: «هذا يوم الحج الأكبر» وقد قال تعالى:{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى?ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛(التوبة: 3) وإنما أذَّنَ المؤذنُ بهذه البراءة يوم النحر، وثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر» .
فسخ الحج إلى العمرة
241 - وأفتى صلى الله عليه وسلم أصحابه بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه ، ثم أفتاهم بفعله حتماً، ولم ينسخه شيء بعده، وهو الذي نَدينُ الله به أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: «مَن لم يكن أهدى فليهلَّ بعمرة، ومن كان أهدى فليهلَّ بحج مع عمرة» .
242 - وأما ما فعله هو فإنه صحي عنه أنه قَرنَ بين الحج والعمرة من بين بضعة وعشرين وجهاً. رواه عنه ستة عشر نفساً من أصحابه، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يَسُقِ الهدي ، وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين، وبالله التوفيق.
243 -ـوسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أرأيت إن لم أجد إلا مَنيحة أنثى، أفأضحي بها؟ قال: «لا، ولكن خذ من شعرك وأظفارك، وقُصَّ شاربَكَ، وتحلق عانتك، وذلك تمام أضحيتك عند الله» والمنيحة: الشاة التي أعطاه إياه غيره لينتفع بلبنها، فمنعت من التضحية بها بأنها ليست ملكه، وإن كان قَد منحها هو غيره وقتاً معلوماً لزم الوفاء له بذلك فلا يضحي بها أيضاً.
244 - وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة من أصحابه كانوا معه فأخرج كلُّ واحد منهم درهماً فاشتروا أضحية، فقالوا: يارسول الله لقد أغلينا بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الضحايا أغلاها وأسمنها» فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رَجُل برجْل، ورَجُل بيدٍ، ورَجل بيدٍ، ورجل بقرنٍ، ورجل بقرن، وذبحها السابع، وكبروا عليها جميعاً. نزل هؤلاء النفر منزلة أهل البيت الواحد في إجزاء الشاة عنهم، لأنهم كانوا رُفقة واحدة.
245 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن عليَّ بدنة وأنا موسرٌ بها ولا أجِدُها فأشتريها، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سَبع شياه فيذبحهن.
246 - وسأله صلى الله عليه وسلم زيدُ بن خالد عن جذَع من المعز، فقال: «ضَحِّ به» .
247 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو بُرَدَة بن نِيار عن شاة ذبحها يوم العيد، فقال: «أقبلَ الصلاة؟» قال: نعم، قال: «تلك شاة لحم» ؛ قال: عندي عَناق جَذَعة هي أحب إليَّ من مُسنَّة. قال: «تُجزىء عنك، ولن تجزىء عن أحد بعدك» وهو صحيح صريح في أن الذبح قبل الصلاة لا يجزىء؛ سواء دخل وقتها أو لم يدخل، وهذا الذي ندين الله به قطعاً ولا يجوز غيره.
248 - وفي الصحيحين من حديث جُندُب بن سفيان البَجَلي عنه صلى الله عليه وسلم: «من كان ذبح قبل أن يُصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله» .
249 - وفي الصحيحين من حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كان ذبح قبل الصلاة فَلْيُعِد» ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
250 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو سعيد فقال: اشتريت كبشاً أُضحِّي به، فعدا الذئبُ، فأخذ ألْيَته، فقال: «ضحِّ به» .
عن الصلاة في بيت المقدس
251 - وأفتى صلى الله عليه وسلم من أراد الخروج إلى بيت المقدس للصلاة أن يصلي في مكة.
252 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر يوم فتح مكة، فقال: إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: «صَلِّ ها هنا» ، ثم سأله فقال: «شأنَكَ إذاً» .
253 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر: أي مسجدٍ وُضِع في الأرض أولَ؟ قال: «المسجد الحرام» ، قال: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى» ، قال: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاماً» .
254 - وسُئل صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسجدين أسس على التقوى؟ قال: «مسجدكم هذا» ، يريد مسجد المدينة. وزاد الإمام أحمد: «وفي ذلك خير كثير» يعني: مسجد قباء.
فصل: في بيان فضل بعض السور
255 - وسئل: أي آية في القرآن أعظم فقال: {اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ } (البقرة: 255).
256 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ضربْت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملْكِ حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» ذكره الترمذي، وقال ابن عبد البر: هو صحيح.
257 - وسأله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرئني سورة جامعة، فأقرأه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاَْرْضُ زِلْزَالَهَا }(الزلزلة: 1) حتى فرغ منها، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبداً، ثم أدبر الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أفلحَ الرُّوَيْجِلُ» مرتين.
258 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أحب سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }(الإخلاص: 1) فقال: «حبكَ إياها أدخلك الجنة» .
259 - وقال له صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر: أقرأ سورة هود، وسورة يوسف؟ فقال: «لن تقرأ شيئاً أبلغَ عند الله من: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }(الفلق: 1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }(الناس: 1).
عن بعض الأعمال وفضلها
260 - وفي الترمذي عنه أنه. سئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الحالُّ المرتحل» وفهم بعضهم من هذا أنه إذا فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة الكتاب، وثلاث آيات من سورة البقرة؛ لأنه حلَّ بالفراغ وارتحل بالشروع، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة، والمراد بالحديث الذي كلما حلَّ من غزاة ارتحل في أخرى، أو كلما حل من عمل ارتحل إلى غيره تكميلاً له كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القراء فليس مراد الحديث قطعاً، وبالله التوفيق. وقد جاء تفسير الحديث متصلاً به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل، وهذا له معنيان، أحدهما: أنه كلما حلَّ من سورة أو جزء ارتحل في غيره، والثاني: أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى.
261 - وسئل عن أهل الله: من هم؟ فقال: «هم أهل القرآن أهل الله وخاصتُه» .
262 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن عمرو بن العاص، في كم أقرأ القرآن؟ فقال: «في شهر» ، فقال: أطيق أفضل من ذلك، فقال: «في عشرين» ، فقال: أطيق أفضل من ذلك، فقال: «في خمسة عشرة» ، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: «في عشرة» ، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: «في خمس» ، قال: أطيق أفضل من ذلك، قال: «لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث» .
263 - واختلف رجلان في آية كل منهما أخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عنها، فقال لكل منهما: «هكذا أنزلت» ثم قال: «أُنزل القرآن على سبعة أحرف» .
264 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي المجاهدين أعظم أجراً؟ قال: «أكثرهم ذكراً لله» قيل: فأي الصائمين أعظم أجراً؟ قال: «أكثرهم لله ذكراً» ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول: «أكثرهم لله ذكراً» ، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل» .
265 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن المفردين الذين هم أهل السَّبق، فقال: «الذاكرون لله كثيراً» وفي لفظ: «المشتهرون بذكر الله، يضع الذِّكرُ عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً» .
266 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رياض الجنة، فقال: «حِلَقُ الذكر» .
267 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أهل الكرم الذين يقال لهم يوم القيامة: سيعلم أهلُ الجمْع من أهل الكرم، فقال: «هم أهل الذكر في المساجد» .
268 - وسئل عن غنيمة مجالس الذكر، فقال: «غنيمة مجالس الذكر: الجنة» .
269 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوم غزوْا فقال: ما رأينا أفضل غنيمةً، ولا أسرع رجعة منهم، فقال: «أدُلكم على قومٍ أفضل غنيمة منهم، وأسرع رجعة: قوم شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله، حتى طلعت الشمس، فأولئك أسرع رجعة وأفضل غنيمة» .
270 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن خيار الناس، فقال: «الذين إذا رأوا ذكر الله ذكروا» .
271 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن خير الأعمال وأزكاها عند الله وأرفعها في الدرجات، فقال: «ذكر الله» .
272 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ فقال: «جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» .
273 - وقال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ» ، قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: «سَلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» .
274 - وسئل صلى الله عليه وسلم: بأي شيء نختم الدعاء؟ فقال: «بآمين» .
275 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن تمام النعمة، فقال: «الفوْز بالجنة والنجاة من النار» فنسأل الله تمام نعمته بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
276 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الاستعجال المانع من إجابة الدعاء، فقال: يقول: «قد دعوت، قد دعوت فلم يُستجَب لي، فيَسْتحسر عند ذلك، ويدَع الدعاء» وفي لفظ: يقول: «قد سألت، قد سألت فلم أُعْطَ شيئاً» .
277 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الباقيات الصالحات، فقال: «التكبيرُ والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
278 - وسأله صلى الله عليه وسلم الصديقُ رضي الله عنه أن يُعلِّمه دعاء يدعو به في صلاته، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» .
279 - وسأله صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي علَّمه أن يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم» . فقال: هذا لربي فما لي؟ فقال: «قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني؛ فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك» .
280 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رياض الجنة، فقال: «المسجد» ، فسئل صلى الله عليه وسلم عن الرَّتْع فيها، فقال: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» .
281 - واستفتاه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلِّمني ما يجزيني، قال: «قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» قال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ قال: «قل: اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني» ، فقال هكذا بيده وقبضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد مَلأ يده من الخير» .
282 - ومرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هُريرة وهو يغرس غَرْساً، فقال: «ألا أدلك على غِراس خير لك من هذا؟ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة» .
283 - وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يكسب أحدُنا كلَّ يوم ألف حسنة؟ قال: «يسبح مائة تسبيحة، يكتب له ألف حسنة أو يحطُّ عنه ألف خطيئة» .
284 - وأفتى صلى الله عليه وسلم مَن قال له: لدَغتني عقرب بأنه لو قال حين أمسى: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضره» .
285 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل أن يعلمه تعوذاً يتعوذ به، فقال: «قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، وشر بصري، وشر لساني، وشر قلبي، وشر هَنِي» يعني: الفرجَ.
286 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة عليه، فقال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
287 - وقال له صلى الله عليه وسلم مُعاذٌ: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويُباعدني من النار، قال: «لقد سألتَ عن عظيم، وإنه ليسير على مَنْ يَسَّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» . ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير» ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: «الصوم جُنَّة، والصدقة تُطفىء الخطيئة، كما تطفىء الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» . ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِرْوة سنامه؟ رأس الأمر الإسلامُ، وعمودُه الصلاةُ، وذُرْوةُ سنامه: الجهاد في سبيل الله» . ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله» ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: «كفَّ عليك هذا» وأشار إلى لسانه، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» .
288 - وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: دُلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» ، فقال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فلما ولَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» .
289 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل آخر فقال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويبعدني من النار، فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة، وتصل الرحم» .
290 - وسأله أعرابي فقال: علَّمني عملاً يدخلني الجنة، فقال: «لئن كنت أقصَرْتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة؛ أعتق النَّسَمة، وفُكَّ الرقبة» قال: أوليستا بواحدة؟ قال: «لا، عِتقُ النسمة أن تفرَّد بعتقها، وفك الرقبة أن تُعينَ في عتقها، والمنحة الوكُوفُ، والفيْء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تُطقْ ذلك، فكفَّ لسانَك إلا من الخير» .
291 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: ما الإسلام؟ فقال: «أن يُسْلِمَ قَلبُكَ لله عزَّ وجلَّ وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدنك» قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان» ، قال: وما الإيمان؟ قال: «تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت» ، قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: «الهجرة» ، قال: وما الهجرة؟ قال: «أن تهجر السوء» ، قال: فأي الهجرة أفضلُ؟ قال: «الجهاد» ، قال: وما الجهاد؟ قال: «أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم» ، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: «من عقر جواده، وأُهرِيق دمُه» . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم عملانِ هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما، حجة مبرورةٌ أو عمرةٌ» .
292 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: «الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة تفضل سائر العمل كما بين مطلع الشمس ومغربها» .
293 - وسئل صلى الله عليه وسلم أيضاً: أي الأعمال أفضل؟ فقال: «أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله» قال السائل: وماذا يا رسول الله؟ قال: «وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وأن تقول خيراً أو تصمت» .
294 - واختلف نفر من الصحابة في أفضل الأعمال؛ فقال بعضهم: سقاية الحاج، وقال بعضهم: عمارة المسجد الحرام، وقال بعضهم: الحج، وقال بعضهم الجهاد في سبيل الله، فاستفتى عمرُ في ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }(التوبة: 19، 20)
295 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله: شهدت أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال: «من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، هكذا» -ـ ونصب أصابعه -ـ «ما لم يعُقَّ والديه» .
296 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر، فقال: أرأيت إذا صليتُ المكتوبةَ وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: «نعم» ، قال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً.
297 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال خير؟ قال: «أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف» .
298 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة، فقال: إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني، فأنبئني عن كل شيء، فقال: «كل شيء خلق من ماء» قال: أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة، قال: «أفْشِ السلام، وأطعم الطعام، وصِل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادْخُل الجنة بسلام» .
299 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: «إذا أردت أن يَلينَ قلبكَ، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم» .
300 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «طول القيام» قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «جهدُ المقِل» قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: «مَنْ هَجَرَ ما حرم الله عليه» ، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قيل: «من جاهد المشركين بماله ونفسه» ، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: «من أُهريقَ دمه وعُقر جوادهُ» .
301 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحج مبرور» .
302 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر فقال: من أين أتصدَّق وليس لي مال؟ قال: «إن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشَّوْكة عن طريق الناس والعظمَ والحجرَ وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم، حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك من جماعك لزوجتك أجر» ، فقال أبو ذر: فكيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان لك ولد؛ ورجوت أجره فمات، أكنت تحتسب به؟» قلت: نعم، قال: «أنت خلقته» ؟ قلت: بل الله خلقه، قال: «فأنت هديته» ؟ قلت: بل الله هَداه، قال: «فأنت كنت رَزَقته» ؟ قلت: بل الله كان يرزقه، قال: «فكذلك، فَضعه في حلاله وجنِّبه حرامه، فإن الله أحياه وإن شاء الله أماته، فلك أجره» .
303 - وسأل صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً: «منْ أصبح منكم اليوم صائماً؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من اتبع منكم اليوم جنازة» ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «من أطعم منكم اليوم مسكيناً» ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضاً» ؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في رجل إلا دخل الجنة» .
304 - وسئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يعمل العمل فيستره، فإذا اطَّلع عليه أعجبه، فقال: «له أجران: أجر السر، وأجر العلانية» . 304 م -ـ وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر: يا رسول الله أرأيتَ الرجل يعمل العمل من الخير يَحمده الناسُ عليه؟ قال: «تلك عاجل بُشرى المؤمن» .
305 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أي العمل أفضل؟ فقال: «الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله» قال: أريد أهْوَنَ من ذلك يا رسول الله، قال: «السماحة والصبر» ، قال: أريد أهون من ذلك، قال: «لا تتهم الله تعالى في شيء قضي لك» .
306 - وسأله صلى الله عليه وسلم عُقبة عن فواضل الأعمال، فقال: «يا عقبة صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك» .
307 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أني قد أحسنت، وإذا أسأت أني قد أسأت؟ فقال: «إذا قال جيرانك إنك قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا قالوا: قد أسأت فقد أسأت» .
308 - وعند الإمام أحمد: «إذا سمعتهم يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت» .
فصل: فتاوى عن الكسب وبعض الأعمال
309 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» . 310 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاج مالي، قال: «أنت ومالكَ لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً» .
310 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاج مالي، قال: «أنت ومالكَ لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً» .
311 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إنَّا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: «الرَّطُب تأكلينه وتهدينه» . وقال عقبة: الرطب: يعني به: ما يفسد إذا بقي.
312 - وسئل صلى الله عليه وسلم: إنا نأخذ على كتاب الله أجراً، فقال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» . ذكره البخاري في قصة الرُّقية.
313 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أموال السلطان، فقال: «ما أتاك الله منها من غير مسألة ولا إشراف فكلهُ وتموله» .
314 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أجرة الحجَّام، فقال: «أعْلفه ناضِحك وأطعمه رقيقك» .
315 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن عَسْب الفَحْل، فنهاه، فقال: «إنا نطرق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة» .
316 - ونهى عن القُسامة بضم القاف، فسئل عنها فقال: «الرجل يكون على الفئام من الناس، فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا» .
317 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقيُ الماء» .
318 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة مَعكَ، قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خير من صلاتك في حُجْرتك، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قَومك، وصلاتكِ في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلم، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل. 318 م -ـ وسئل صلى الله عليه وسلم: أي البقاع شر؟ قال: «لا أدري حتى أسأل جبريل» ، فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: «خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق» .
319 - وقال صلى الله عليه وسلم: «في الإنسان ستون وثلاثمائة مَفصل، عليه أن يتصدق عن كل مَفصل صدقة» ، فسألوه مَن يطيق ذلك؟ قال: «النخامة تَرَاهَا في المسجد فتدفنها، أو الشيء فتنحيه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى يُجزِيانك» .
320 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قاعداً، فقال: «من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى مضطجعاً فله نصف أجر القاعد» . قلت: وهذا له محملان: أحدهما : أن يكون في النافلة عند من يجوزها مضطجعاً. والثاني: على المعذور، فيكون له بالفعل النصف والتكميل بالنية.
321 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: ما يمنعني أن أتعلم القرآن إلا خشية أن لا أقوم به، فقال: «تعلم القرآن واقرأه وارقد، فإن مَثلَ القرآن لمن تعلَّمه فقرأه وقال به كمثل جِراب مَحشُوَ مسكاً يفوح ريحهُ على كل مكان، ومن تعلمه ورقَدَ وهو في جوفه كمثل جراب وُكِيَ على مسك» .
322 - وقال عن رجل توفي من أصحابه: «ليته مات في غير مولده» ، فسئل، لم ذلك؟ فقال: «إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة» . ذكر هذه الأحاديث أبو حاتم وابن حبان في صحيحه.
323 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أيغني الدواء شيئاً؟ فقال: «سبحان الله وهل أنزل الله تبارك وتعالى من داء في الأرض إلا جَعلَ له شفاء» .
324 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرُّقَى والأدوية؛ هل تردُّ من قدَر الله شيئاً؟ قال: «هي من قَدر الله» .
325 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل من المسلمين طَعنَ رجلاً من المشركين في الحرب، فقال خذها وأنا الغلام الفارسي، فقال: «لا بأس في ذلك، يحمد ويؤجر» .
326 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل أن يعلمه ما ينفعه، فقال: «لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تُفْرِغَ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تُكلِّمَ أخاك ووجهك منبسط إليه، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، ولا يحبها الله، وإن امرؤ شتمكَ بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم منه، فإن أجره لك، ووباله على مَن قاله» .
327-ـ وسئل صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: «لا تحل لمن شهد أني رسول الله» .
328 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، كيف يصنع معهم؟ فقال: «صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صلِّ معهم، فإنها لك نافلة» .
329 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة صَفْوان بن المُعطَّل السلمي، فقالت: إنه يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فسأله عما قالت امرأته، فقال: أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت سورة واحدة لكفت الناس» ، وأما قولها: يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجلٌ شابٌّ ولا أصبر، فقال صلى الله عليه وسلم يومئذ: «لا تصومُ امرأة إلا بإذن زوجها» . قال: وأما قولها: لا أصلي حتى تطلعَ الشمس، فإنا أهل بيت لا نكاد أن نستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال: «صلِّ إذا استيقظت» . قلت: ولهذا صادف أم المؤمنين في قصة الإفك، لأنه كان في آخر الناس، ولا ينافي هذا الحديث قوله في حديث الإفك، والله ما كشَفْتُ كِنْف أنثى قط، فإنه إلى ذلك الوقت لم يكشف كنف أنثى قط؛ ثم تزوج بعد ذلك.
330 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قتل الوزَغ، «فأمر بقتله» .
331 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل نذر أن يمشي إلى الكعبة، فجعل يهادَى بين رجلين، فقال: «إن الله لَغني عن تعذيب هذا نفسه». وأمره أن يركب.
332 - واستفتاه صلى الله عليه وسلم رجل في جار له يؤذيه، فأمره بالصبر، ثلاث مرات، فقال له في الرابعة: «اطرَحْ متاعَكَ في الطريق» ، ففعل، فجعل الناس يمرون به ويقولون: ما له؟ ويقول: آذاه جاره، فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال: رُدَّ متاعك، والله لا أوذيك أبداً.
333 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنباً كبيراً، فهل لي من تَوبة، فقال له: «ألك والدان» ؟ فقال: لا، قال: «فلك خالة» ؟ قال: نعم، قال: «فبرَّها» .
334 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل قد أوجب، فقال: «اعْتِقُوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار» . أوجب: أي استوجَبَ النار بذنب عظيم ارتكبه.
335 - وسأله رجل، فقال: إن أبويَّ قد هلكا، فهل بقي من بعد موتهما شيء؟ فقال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عقودهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة رحمهما التي لا رحم لك إلا من قبلهما» . قال الرجل: ما ألذَّ هذا وأطيبه قال: «فاعمل به» .
336 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل شَدَّ على رجل من المشركين ليقتله، فقال: إني مسلم، فقتله، فقال فيه قولاً شديداً، فقال: إنما قاله تَعوُّذاً من السيف، فقال: «إن الله حرَّمَ عليَّ أن أقتل مؤمناً» .
337 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أخْبِرْنا بخيرنا من شرنا، فقال: «خيركم من يُرْجى خيره ويؤمن شره، وشَرُّكم من لا يُرجى خيره، ولا يؤمن شره» .
338 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: ما الذي بعثك الله به؟ فقال: «الإسلام» ؛ فقال: وما الإسلام؟ قال: «أن تُسلم قلبك لله، وأن توجِّه وجهك لله؛ وأن تصلي الصلاة المكتوبة؛ وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل الله من عبد توبة أشرَكَ بعد إسلامه» .
339 - وسأله صلى الله عليه وسلم الأسود بن سريع؛ فقال: أرأيت إن لقيتُ رجلاً من المشركين فقاتلني، فضرَبَ إحدى يديّ بالسيف؛ فقطعها ثم لاذَ منِّي بشجرة؛ فقال: أسلمت لله؛ أفأقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتله» ، فقلت: يا رسول الله إنه قَطع إحدى يدي؛ ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: «لا تقتله، فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» .
340 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله مَررت برجل، فلم يضيفني ولم يقْرني؛ أفأحتكم؟ قال: «بل أقره» وقوله: أحتكم أي: أعامله إذا مر بي بمثل ما عاملني به.
341 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ذر، فقال: الرجل يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل بعملهم. قال: «يا أبا ذر، أنت مع من أحببت» . قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: «أنت يا أبا ذر مع من أحببت» .
342 - وسأله صلى الله عليه وسلم ناس من الأعراب، فقالوا: أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، فقال: «أيها الناس؛ إن الله قد وضَعَ عنكم الحَرَجَ، إلا من اقترض من عِرْضِ أخيه؛ فذلك الذي حرج وهَلك» ، قالوا: أفنتداوى يا رسول الله؟ قال: «نعم إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دَوَاء، غير داء واحد» ، قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: «الهرم» قالوا: فأي الناس أحبُّ إلى الله يا رسول الله؟ قال: «أحب الناس إلى الله أحسنهم خلقاً» .
343 - وسأله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم، فقال: إن أبي كان يَصلُ الرحمَ وكان يفعل ويفعل، فقال: «إن أباك أراد أمراً فأدركه؛ يعني الذكر» ، قال: قلت: يا رسول الله، إني أسألك عن طعام لا أدَعُه إلا تحرجاً، قال: «لا تَدَع شيئاً ضارع النصرانية فيه» ، قال: قلت: إني أرسل كلبي المعلَّم، فيأخذ صيداً فلا أجد ما أذبح به إلا المرْوة والعصا قال: «أهرق الدَّمَ بما شئتَ، واذكر اسم الله» .
344 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة عن ابن جُدْعان، وما كان يفعل في الجاهلية من صلة الرحم، وحسن الجوار وقِرى الضيف، هل ينفعه؟ فقال: «لا، لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» .
345 - وسأله صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله الثقفي أن يقول له قولاً لا يسأل عنه أحداً بعده، فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم» .
346 - وسئل صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: «أتقاهم لله» ، قالوا: لسنا عن هذا نسألك، قال: «فعن مَعادن العرب تسألوني؟ خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» .
347 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إني نذرتُ إن ردَّك الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: «إن كنت نذرت فافعلي، وإلا فلا» قالت: إني كنت نذرت، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربت بالدف. وله وجهان: أحدهما: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح تطييباً لقلبها وجَبراً وتأليفاً لها على زيادة الإيمان وقوته، وفرحها بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن يكون هذا النذرُ قُربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً مؤيَّداً منصوراً على أعدائه قد أظهره الله وأظهر دينه، وهذا من أفضل القُرَب، فأمرت بالوفاء به.
348 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل؛ فقال: يا رسول الله، الرجلُ يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي من عرض الدنيا، فقال: «لا أجر له» ، فأعظم ذلك الناس فقالوا للرجل: أعِدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلعلك لم تفهمه، فقال الرجل: يا رسول الله؛ الرجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي من عرض الدنيا، فقال: «لا أجر له» فأعظم قلك الناس؛ فقالوا: أعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعاد، فقال: «لا أجرَ له» .
349 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أقاتل أو أُسْلم؟ قال: «أسلِمْ ثم قاتل» فأسلمَ ثم قاتلَ فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا عملَ قليلا وأُجِر كثيراً» .
350 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: ما أكثر ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسانه ثم قال: «هذا» .
351 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: قل لي قولاً ينفعني الله به، وأقلِلْ لعلي أفعله، فقال: «لا تغضب» ، فردد مراراً، كل ذلك يقول له: «لا تغضب» .
352 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن لي ضَرَّة، فهل عليَّ جُناح إن استكثرت من زوجي بما لا يعطيني؟ فقال: «المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زورٍ» . وكل هذه الأحاديث في الصحيح.
353 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأوصني بشيء أتشبث به، فقال: «لا يزالُ لسانُكَ رطباً من ذكر الله» .
354 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل على الله؟ فقال: «بل اعْقِلها وتوكل» .
355 - وقال له صلى الله عليه وسلم رجل: ليس عندي يا رسول الله ما أتزوج به، قال: «أوليس معك قل هو الله أحد» ؟ قال: بلى، قال: «ثلث القرآن» ، قال: «أليس معك: قل يا أيها الكافرون» ؟ قال: بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «أليس معك إذا زلزلت الأرض» ؟ قال: بلى، قال: «ربع القرآن» . قال: «أليس معك إذا جاء نصر الله» ؟ قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك آية الكرسي» ؟ قال: بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «تزوج، تزوج، تزوج» ثلاث مرات.
356 - وسأله صلى الله عليه وسلم معاذ فقال: يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنُّون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرني في أمرهم؟ قال: «لا طاعة لمن لم يطع الله» .
357 - وسأله صلى الله عليه وسلم أنس أن يشفع له، فقال: «إني فاعل» ، قال: فأين أطلبك يوم القيامة؟ قال: «اطلبني أول ما تطلبني على الصراط» ، قلت: فإذا لم ألْقَكَ على الصراط؟ قال: «فأنا على الميزان» ، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فأنا عند الحوض، لا أخطىء هذه الثلاث المواطن يوم القيامة» .
358 - وسأله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن عِلاَط، فقال: إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن آتيهم. فأنا في حِلَ إن أنا نِلْتُ منك، أو قلت شيئاً؟ فأذِنَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. وفيه دليل على أن الكلام إذا لم يرد به قائله معناه، إما لعدم قصده له، أو لعدم علمه به، أو أنه أراد به غير معناه، لم يلزمه ما لم يرده بكلامه، وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، ولهذا لم يلزم المكرَهَ على التكلم بالكفر الكفر، ولم يلزم زائل العقل بجنون أو نوم أو سكر ما تكلم به، ولم يلزم الحجاج بن عِلاطٍ حكم ما تكلم به؛ لأنه أراد به غير معناه، ولم يعقد قلبه عليه. وقد قال تعالى:{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى? أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُو?اْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (المائدة: 89) وفي الآية الأخرى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى? أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (البقرة: 225)، فالأحكام في الدنيا والآخرة مُرتبة على ما كسبه القلب، وعقد عليه، وأراده من معنى كلامه.
359 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأةٌ، فقالت: يا رسول الله إن نساءً أسْعدنني في الجاهلية، يعني في النَّوْح، أفأساعدهن في الإسلام؟ فقال: «لا إسعاد في الإسلام، ولا شِغار في الإسلام، ولا عَقْر في الإسلام، ولا جَلَب في الإسلام، ومن انتهبَ فليس منا» . والإسعاد: إسعاد المرأة في مصيبتها بالنوح. والشِّغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر بنته. والعَقْر: الذبح على قبور الموتى. والجَلَب: الصياح على الفرس في السباق. والجَنَبُ: أن يُجْنِبَ فرساً إلى فرسه، فإذا أعيت فرسُه انتقل إلى تلك في المسابقة.
360 - وسأله صلى الله عليه وسلم بعضُ الأنصار، فقالوا: قد كان لنا جمل نسير عليه، وإنه قد استصعب علينا ومَنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال لأصحابه «قوموا» فقاموا، فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، فقالت الأنصار: يا نبي الله إنه قد صار مثل الكلْب الكَلِب، وإنا نخاف عليك صوْلته، فقال: «ليس عليَّ منه بأس» ، فلما نظر الجملُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خَرَّ ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذلَّ ما كان قط حتى أدخله في العمل، فقال له الصحابة: يا نبي الله هذا بَهيمة لا تعقل، تسجدُ لك، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: «لا يصلُحُ لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه يَتنجس بالقَيْح والصديد، ثم استقبلته تلحسه ما أدَّت حقه» . فأخذ المشركون مع مريديهم بسجود الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا قوله: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، وهؤلاء شر من الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم.
361 - وسئل صلى الله عليه وسلم، فقيل له: إن أهل الكتاب يحتفون، ولا ينتعلون في الصلاة، قال: «فاحتفوا وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب» ، قالوا: فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سِبالهم، فقال: «قُصُّوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب» .
362 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا نبي الله مررت بغار فيه شيء من ماء، فحدثتُ نفسي بأن أقيم فيه، فيقوتني ما فيه من ماء وأصيب ما حوله من البقل وأتخلى عن الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمْحَة، والذي نفس محمد بيده لغَدْوةٌ أو رَوْحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقامُ أحدِكم في الصف خير من صلاته ستين سنة» .
فصل في أنواع البيع
363 - وأخبرهم أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم بيع الخمر والميتة والخنزير وعبادة الأصنام، فسألوه وقالوا: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفنُ ويدهن بها الجلود ويَستصبح بها الناس، فقال: «هو حرام» ، ثم قال: «قاتل الله اليهودَ فإن الله لما حرَّم عليهم شحومَها جَملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» . وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «هو حرام» قولان: أحدهما: إن هذه الأفعال حرام. والثاني: إن البيع حرام، وإن كان المشتري يشتريه لذلك، والقولان مبنيان على أن السؤال منهم هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور، أو وقع عن الانتفاع المذكور، والأول اختيار شيخنا وهو الأظهر؛ لأنه لم يخبرهم أولاً عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة. والله أعلم.
364 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو طلحة عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: «أهْرِقْها» قال: أفلا أجعلها خلاًّ؟ قال: «لا» .
365 - وفي لفظ: إن أبا طلحة قال: يا رسول الله إني اشتريتُ خمراً لأيتام في حِجْري، فقال: «أَهْرِق الخمر واكسر الدِّنان» .
366 - وسأله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام فقال: الرجل يأتيني، ويريد مني البيع، وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه، ثم أبتاع من السوق؟ قال: «لا تَبع ما ليس عندك» .
367 - وسأله صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم عليَّ منها؟ قال: «يا ابن أخي لا تَبيعَنَّ شيئاً حتى تقبضه» وعند النسائي: ابتعتُ طعاماً من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: «لا تبعه حتى تقبضه» .
368 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الصلاح الذي إذا وُجِدَ جاز بيع الثمار، فقال: «تَحْمارُّ وتصْفَارُّ ويؤكل منها» .
369 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الماء» قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «الملح» قال: ثم ماذا؟ قال: «النار» ، ثم سأله صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: «أن تفعل الخير خير لك» . 370- وسئل أن يحجر على رجل يُغْبَن في البيع لضعف في عقدته، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه، فقال: «إذا بايعت فقل لا خِلاَبَةَ، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاثاً» .
371 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل ابتاع غلاماً فأقام عنده ما شاء أن يقيم، ثم وجد به عيباً فرده عليه، فقال البائع: يا رسول الله قد استغلَّ غلامي، فقال: «الخَرَاجُ بالضمان» .
372 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إني امرأة أبيع وأشتري، فإذا أردت أن أبتاع الشيء سُمْت به أقلَّ مما أريد، ثم زدت حتى أبلغ الذي أريد، وإذا أردت أن أبيع الشيء سُمت به أكثر من الذي أريد، ثم وضعت حتى أبلغ الذي أريد، فقال: «لا تفعلي، إذا أردتِ أن تبتاعي شيئاً فاسْتَامِي به الذي تريدين أعطيت أو منعت، وإذا أردتِ أن تبيعي شيئاً، فاستامي به الذي تريدين أعطيت أو منعت» .
373 - وسأله صلى الله عليه وسلم بلال عن تمر رديء باع منه صاعين بصاع جيد، فقال: «أوْه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيعاً آخر ثم اشتر بالثمن» .
374 - وسأله صلى الله عليه وسلم البَرَاءُ بن عازب فقال: اشتريت أنا وشريكي شيئاً يداً بيد ونسيئة، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما ما كان يداً بيد فخذوه وما كان نسيئة فذَرُوه» . وهو صريح في تفريق الصفقة. وعند النسائي عن البَراءَ قال: كنت أنا وزيد بن أرقم تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن الصَّرف، فقال: «إن كان يَداً بيَدٍ فلا بأس، وإن كان نسيئة فلا يصلح» .
375 - وسأله صلى الله عليه وسلم فضالة بن عُبيْد عن قلادة اشتراها يوم خيبر باثني عشر ديناراً فيها ذَهَبٌ وخرز، ففصلها، فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فقال: «لا تُباعُ حَتَّى تُفَصَّل» وهو يدل على أن مسأله مُدَّ عَجْوةٍ لا تجوز إذا كان أحد العوضين فيه ما في الآخر وزيادة؛ فإنه صريح الربا، والصواب: أن المنع مختص بهذه الصورة التي جاء فيها الحديث وما شابهها من الصور.
376 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل، فقال: «لا بأس إذا كان يداً بيد» .
377 - وسأله صلى الله عليه وسلم ابن عمر فقال: أشتري الذهبَ بالفضة؟ فقال: «إذا أخذت واحداً منهما، فلا يفارقك صاحبُكَ وبينك وبينه لبس» . وفي لفظ: كنت أبيع الإبل، وكنت آخذ الذهب من الفضة والفضة من الذهب. والدنانير من الدراهم، والدراهم من الدنانير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إذا أخذت أحدهما وأعطيت الآخر فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لبس» .
378 - وتفسير هذا ما في اللفظ الذي عند أبي داود عنه، قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء».
379 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن اشتراء التمر بالرطب، فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك.
380 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل أسْلَفَ في نخل، فلم يخرج تلك السنة، فقال: «اردُد عليه ماله» ، ثم قال: «لا تُسْلفُوا في النخل حتى يبْدوَ صلاحه» .
381 - وفي لفظ: إن رجلاً أسلم في حديقة نخل قبل أن يطلع النخل، فلم يطلع النخل شيئاً ذلك العام. فقال المشتري: هو لي حتى يطلع، وقال البائع: إنما بعتك النخل هذه السنة، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للبائع: «أخذ من نخلك شيئاً» ؟ قال: لا، قال: «فبم تستحلُّ ماله؟ اردد عليه ماله» ، ثم قال: «لا تسْلِفوا في النخل حتى يبدو صلاحه» . وهو حجة لمن لم يجوز السلم إلا في موجود الجنس حال العقد، كما يقوله الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي.
382 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن بني فلان قد أسْلمُوا، لقوم من اليهود، وإنهم قد جاعوا، فأخاف أن يرتدوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عنده» ؟ قال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا، لشيء سماه، أراه قال: ثلاثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسعر كذا وكذا، وليس من حائط بني فلان» .
فصل عن فضل بعض الأعمال
383 - وسأله صلى الله عليه وسلم حمزةُ بن عبد المطلب فقال: اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حمزةُ نفسٌ تحييها أحبُّ إليك أم نفس تميتها» ؟ فقال: نفس أحييها، قال: «عليك نفسك» .
384 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما عمل الجنة؟ قال: «الصدق، فإذا صدق العبد برَّ، وإذا برَّ آمن، وإذا آمن دخل الجنة» . وسئل صلى الله عليه وسلم: ما عمل أهل النار؟ قال: «الكذب، إذا كذب العبد فَجَر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار» .
385 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: «الصلاة» ، قيل ثم مه؟ قال: «الصلاة» ، ثلاث مرات، فلما غلب عليه قال: «الجهاد في سبيل الله» ، قال الرجل: فإن لي والدين، قال: «آمرك بالوالدين خيراً» قال: والذي بعثك بالحق نبياً لأجاهدنَّ ولأتركهما، فقال: «أنت أعلم» .
386 -ـ وسئل صلى الله عليه وسلم عن الغُرَفِ التي في الجنة يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، لمن هي؟ قال: «لمن أَلاَنَ الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائماً والناس نيام» .
387 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أرأيت إن جاهدتُ بنفسي ومالي فقتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أدخل الجنة؟ قال: «نعم» ، فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً قال: «إلاَّ إن متَّ وعليك دَين وليس عندك وفاؤه» ، وأخبرهم بتشديد أنزل، فسألوه عنه، فقال: «الدَّين، والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله، ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله، ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله ما دخل الجنة حتى يُقضى دينه» .
388 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن أخيه مات وعليه دَين، فقال: «هو محبوس بدَينة، فاقض عنه» ، فقال: يا رسول الله قد أديتُ عنه إلا دينارين ادَّعَتْهما امرأة وليس لها بينة، فقال: «أعْطها فإنها مُحِقة» . وفيه دليل على أن الوصي إذا علم بثبوت الدَّين على الميت جاز له وفاؤه وإن لم تقم به بينة.
389 - وسألوه صلى الله عليه وسلم أن يُسَعر لهم، فقال: «إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم أو مال» .
390 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أرْضِي ليس لأحد فيها شركة ولا قسمة إلا الجار، فقال: «الجارَ أحقّ بصقبه» . والصوابُ العمل بهذه الفتوى إذا اشتركا في طريق أو حق من حقوق الملك.
391 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الظلم أعظم؟ قال: «ذراع من الأرض ينتقصه من حق أخيه، وليس حصاة من الأرض أخذها إلا طوِّقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرَها إلا الذي خلقها» .
392 - وأفتى صلى الله عليه وسلم في شاة ذُبحت بغير إذن صاحبها وقدِّمت إليه أن تطعمَ الأسارى.
فصل فتاوى عن الرهن والدَّين
393 - وأفتى صلى الله عليه وسلم «بأن ظهر الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» . ذكره البخاري. وأخذ أحمد وغيرُه من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب.
394 - وأفتى صلى الله عليه وسلم «بأن الرهن لا يَغْلَق من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمُه، وعليه غُرْمه» .
395 - وأفتى صلى الله عليه وسلم في رجل أصيبَ في ثمار ابتاعها فكثر دَينه، فأمر أن يتصدق عليه، فلم يُوفِ ذلك دَينه، فقال للغرماء: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» .
396 - وأفتى صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من غيره» .
فصل عن تصدق المرأة، وعن الأكل من مال اليتيم
397 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة عن حُليَ لها تصدق به. فقال لها: «لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها» وفي لفظ: «لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجُها عصمتها» .
398 - وعن ابن ماجة أن خَيرة امرأةَ كعب بن مالك أتته بحليَ فقالت: تصدقت بهذا، فقال: «هل استأذنت كعباً» ؟، فقالت: نعم، فبعث إلى كعب، فقال: «هل أذنَت خَيْرَة أن تتصدق بحليها هذا» ؟ فقال نعم، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
399 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم، فقال: «كلْ من مال يتيمك غيرَ مُسرِفٍ ولا مبذر ولا متأثلٍ مالاً» «ومن غير أن تقي مالك» أو قال: «تفدي مالك بماله» .
400 - ولما نزلت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(الأنعام: 152)، عزلوا أموالَ اليتامى، حتى جعل الطعام يفسد، واللحم ينتن، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(البقرة: 220).
401 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن لُقطةِ الذهب والورِقِ، فقال: «اعرفْ وكاءها وعِفاصها، ثم عرِّفها سنة؛ فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك؛ فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدِّها إليه» . فسئل صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل، فقال: «ما لَكَ ولها؟ دَعها فإن معها حِذاءها وسِقاءَها تَرِدُ الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها» . فسئل صلى الله عليه وسلم عن الشاة، فقال: «خذْها فإنما هي لك أو لأخيك أو الذئب» . وفي لفظ لمسلم: «فإن جاء صاحبها فعرفَ عِفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه، وإلا فهي لك» . وفي لفظ لمسلم: «ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدِّها إليه» .
402 - وقال أُبَيّ بن كعب: وجدت صُرَّة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مائة دينار، فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «عَرِّفها حَولاً» ، فعرفتها حولاً. ثم أتيته بها، فقال: «عرفها حولاً» ، فعرفتها، ثم أتيته بها، فقال: «عرفها حولاً» فعرفتها ثم أتيته بها الرابعة، فقال: «اعرف عددَها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستمتع بها» ، فاستمتعت بها..
403 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل من مُزينة عن الضالة من الإبل، قال: «معها حِذَاؤها وسقاؤها تأكل الشجرَ وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها» قال: الضالة من الغنم، قال: «لك أو لأخيك أو للذئب، تجمعها حتى يأتيها باغيها» ، قال: الحَريسة، التي توجد في مراتعها، قال: «فيها ثمنها مرتين، وضرب نَكالٍ،، وما أخذ من عَطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجنَّ» قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: «ما أخذ بفمه فلم يتخذ خبيئة، فليس عليه شيء، وما احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نَكالٍ وما أُخذ من أجرانه، ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنِّ» ، قالوا يا رسول الله فاللُّقَطَة يجدُها في سبيل العامرة؟ قال: «عرفها حولاً، فإن وجدت باغيها، فأدِّها إليه، وإلا فهي لك» قال: ما يوجد في الحرب العادي؟ قال: «فيه وفي الركاز الخمس» . والإفتاء بما فيه متعين، وإن خالفه من خالفه، فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه.
404 - وأفتى بأن «من وجد لُقطة فلَيشهدْ ذَوي عدْل، وليحفظ عفاصها ووِكاءها، ثم لا يكتم ولا يغيب؛ فإن جاء ربُّها فهو أحق بها وإلا فهو مالُ الله يؤتيه من يشاء» .
405 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل جلس لحاجتِه فأخرج جُرذٌ من حجر ديناراً، ثم أخرج آخر، ثم أخرج آخر؛ حتى أخرج سبعة عشر ديناراً؛ ثم أخرج طرف خرقة حمراء، فأتى بها السائلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرَها، وقال: خُذْ صدقتها، قال: «ارجع بها، لا صدقة فيها، بارك الله لك فيها» ، ثم قال: «لعلك أهوَيت بيدك في الحجر» ، قلت: لا، والذي أكرمك بالحق، فلم يفن آخرها حتى مات. وقوله والله أعلم: لعلك أهويْتَ بيدك في الحجر، إذ لو فعل ذلك لكان ذلك في حكم الرِّكاز، وإنما ساق الله هذا المَالَ إليه بغير فعل منه، أخرجته له الأرضُ، بمنزلة ما يخرج من المباحات، ولهذا -ـ والله أعلم -ـ لم يجعله لقطة؛ إذ لعله علم أنه من دفن الكفار.
406 - أهدى له صلى الله عليه وسلم عياضُ بن حمار إبلاً قبل أن يسلم، فأبى أن يقبلها، وقال: «إنا لا نقبل زَبْد المشركين» ، قال: قلت وما زَبْد المشركين؟ قال: «رِفْدُهم وهديتهم» ، ولا ينافي هذا قبوله هدية أُكَيْدِر وغيره من أهل الكتاب، لأنهم أهل كتاب فقبل هديتهم، ولم يقبل هدية المشركين.
407 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت، فقال: رجل أهدى إلي قوْساً ممن كنت أعلِّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، فقال: «إن كنت تحبُّ أن تطوَّق طوْقاً من نار فاقبلها» .
408 - ولا ينافي هذا قوله: «إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» ، في قصة الرُّقية، لأن تلك جَعالة على الطب؛ فطبَّه بالقرآن، فأخذ الأجرة على الطب، لا على تعليم القرآن، وها هنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ فإن الله تعالى قال لنبيه: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } ـ (الأنعام: 90)، وقال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٍ } (سبأ: 47)، وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }(يس: 21)، فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن.
409 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو النعمان بن بشير أنبني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: «لك السدس» ، فلما أدبر دعاه فقال: «لك سدس آخر» ، فلما ولى دعاه وقال: «إن السدس الآخر طُعمة» .
413 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: «يكفيك من ذلك الآية التي أُنزلت في الصيف في آخر سورة النساء» .
414 - وسأله صلى الله عليه وسلم جابر: كيف أقضي في مالي، ولا يرثني إلا كلالة؟ فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُو?اْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } (النساء: 176).
415 - وسأله صلى الله عليه وسلم تميم الداري: يا رسول الله، ما السنة في الرجل من المشركين يُسْلم على يد رجل من المسلمين؟ فقال: «هو أولى الناس بمحياه ومماته» .
416 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: كنت تصدَّقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت الوليدة. قال: «قد وَجَبَ أجرك. ورجعت إليك في الميراث» . هو ظاهر جداً في القول بالرد، فتأمله.
417 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الكلالة قال: «ما خلا الولدَ والوالد» .
418 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد، قتل معك يوم أُحد، وإن عمهما أخذ جميع ما ترك أبوهما، وإن المرأة لا تنكح إلا على مالها، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أُنزلت آية الميراث، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا سعد بن الربيع، فقال: «أعطِ بنتي سعدٍ ثلثي ميراثه، وأعط امرأته الثمن، وخذ أنت ما بقي» .
419 - وسئل أبو موسى الأشعري عن ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقال: «للبنت النصف، وللأخت: النصف، وأت ابنَ مسعود فسيتابعني» ، فسئل ابن مسعود وأُخْبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصفْ ولابنة الابنِ السدسُ تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت.
420 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: عندي ميراث رجل من الأزد، ولست أجد أزْديًّا أدفعه إليه، فقال: «اذهب فالتمس أزْديًّا حولاً» ، فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول الله، لم أجد أزديًّا أدفعه إليه، قال: «فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه، فلما ولى قال: «عليَّ بالرجل» فلما جاءه قال: «انظر أكبر خزاعة فادفعه إليه» .
421 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل مات ولم يدَعْ وارثاً إلا غلاماً له كان أعتقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل له أحد» ؟ قالوا: لا، إلا غلاماً له كان أعتقه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه له. ذكره أحمد وأهل السنن، وهو حسن، وبهذه الفتوى نأخذ.
422 - وأفتى صلى الله عليه وسلم: «بأن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعَنَتْ عليه» . ذكره أحمد وأهل السنن، وهو حديث حسن، وبه نأخذ.
423 - وأفتى صلى الله عليه وسلم بأن المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمداً، فإذا قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته. ذكره ابن ماجة، وبه نأخذ.
424 - وأفتى صلى الله عليه وسلم بأنه أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا، لا يرث ولا يورث.
425 - وقضى صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمَّه وترثه أمه، ومن قذفها جلد ثمانين. ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين.
426 - وعند أبي داود: وحعل ميراث ولد الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها.
427 - وسأله صلى الله عليه وسلم الشريد بن سُويد، فقال: إن أمي أوصت أن تعتق عنها رقبة مؤمنة، وعندي جارية سوداء نوبية، أفأعقتها عنها؟ فقال: «ائت بها» ، فقال: «من ربك» ؟ قالت: الله، قال: «من أنا» ؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» .
428 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: عليَّ عتق رقبة مؤمنة: وأتاه بجارية سوداء أعجمية، فقال لها: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها السّبابة، فقال لها: «من أنا» ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله، وإلى السماء، أي أنت رسول الله، فقال: «أعتقها» .
429 - وسأله معاوية بن الحكم السلمي فقال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل نجد والجَوَّابية فاطلعت ذات يوم فإذا الذئبُ قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صَكة، فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أفلا أعتقها؟ فقال: «ائتني بها» ، فقال لها: «أين الله» ؟ قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: «أنت رسول الله» ، قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة» . قال الشافعي: فلما وصفت الإيمان وأن ربها تبارك وتعالى في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله. وسأل صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فأجاب مَنْ سأله بأن الله في السماء، فرضي جوابه، وعَلم به أنه حقيقة الإيمان لربه، وأجاب هو صلى الله عليه وسلم مَنْ سأله أين الله، ولم ينكر هذا السؤال عليه، وعند الجهمي أن السؤال بأيْنَ الله كالسؤال بما لونه وما طعمه وما جنسه وما أصله، ونحو ذلك من الأسئلة المحالة الباطلة.
430 - وسألته صلى الله عليه وسلم ميمونة أم المؤمنين فقالت: أشعرت أني أعتقت وليدتي؟ قال: «لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» .
431 - وسأله صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم عن صاحب لهم قد أوجب يعني النار بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار» .
432 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: كم أعفو عن الخادم؟ فصمت عنه، ثم قال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ قال: «اعْفُ عنه كل يوم سبعين مرة» .
433 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن ولد الزنا، فقال: «لا خير فيه، نعلان أجاهد فيهما في سبيل الله أحب إليَّ من أن أعتق ولد الزنا» .
434 - وسأله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة فقال: إن أمي ماتت وعليها نَذْر، أفيجزىء عنها أن أعتق عنها؟ قال: «أعتق عن أمك» وعند مالك: إن أُمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال: «نعم» .
435 - واستَفْتَتْهُ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، فقالت: إني أردت أن أشتري جارية فأعقتها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فقال: «لا يمنعك ذلك. إنما الولاء لمن أعتق» . والحديث في الصحيح، فقالت طائفة: يصح الشرط والعقد، ويجب الوفاء به، وهو خطأ. وقالت طائفة: يبطل العقد والشرط، وإنما صح عقدُ عائشة، لأن الشرط لم يكن في صلب العقد، وإنما كان متقدماً عليه، فهو بمنزلة الوعد لا يلزم الوفاء به، وهذا وإن كان أقربَ من الذي قبله فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُعلل به، ولا أشار في الحديث إليه بوجه ما، والشرط المتقدم كالمُقارن. وقالت طائفة: في الكلام إضمار تقديره: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطيه، فإن اشتراطه لا يفيد شيئاً، لأن الولاء لمن أعتق، وهذا أقرب من الذي قبله مع مخالفته لظاهر اللفظ. وقالت طائفة: اللام بمعنى عَلى، أي اشترطي عليهم الولاء؛ فإنكِ أنتِ التي تُعتقين، والولاء لمن أعتق، وهذا وإن كان أقل تكلفاً مما تقدم، ففيه إلغاء الاشتراط؛ فإنها لو لم تشترطه لكان الحكم كذلك. وقالت طائفة: هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من قول هشام بن عروة، وهذا جواب الشافعي نفسه. وقال شيخنا: بل الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم باشتراط الولاء تصحيحاً لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه، إذ أبى أن يبيع جارية للمعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله تعالى وشرعه، فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم الله ورسوله؛ لأن الشروط الباطلة لا تغير شرعه، وإن من شرط ما يخالف دينه لم يجز أن يُوفى له بشرطه، ولا يبطل البيع به، وإن من عرف فساد الشرط، وشَرَطه ألغي اشتراطه ولم يعتبر، فتأمل هذه الطريقة وما قبلها من الطرق، والله تعالى أعلم.
فصل عن الزواج
436 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ فقال: «التي تسره إذا نَظَر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله» .
437 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي المال يتخذ؟ فقال: «ليتَّخِذْ أحَدُكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم عَلَى أمر الآخرة» .
438 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إني أصبت امرأة ذات حَسَبٍ وَجَمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: «لا» ، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُود فإني مُكاثِر بكم الأمم» .
439 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة رضي الله عنه، فقال: إني رجل شابّ وإني أخاف الفتنة، ولا أجد ما أتزوج به، أفلا أخْتصِي؟ قال: فسكت عني، ثم قلت، فسكت عني، ثم قال: «يا أبا هريرة، جَفَّ القلم بما أنت لاقٍ، فاختصر على ذلك أو زد» .
440 - وسئل صلى الله عليه وسلم آخر، فقال: يا رسول الله ائذن لي أن أختصي، قال: «خِصَاءُ أُمَّتي الصيام» .
441 - وسئل صلى الله عليه وسلم ناس من أصحابه، فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: «أوليس قد جعل لكم ما تصدقون به، إن كلَّ تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تَهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن مُنكر صدقة، وفي بُضع أحدكم صدقة» ، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو كان وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا كان وضعها في الحلال كان له أجر» . وأفتى صلى الله عليه وسلم من أراد أن يتزوج امرأة بأن ينظر إليها.
422 - وسأله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة عن امرأة خَطبها، قال: اذْهَب فانظر إليها فإنه أَجْدَر أن يؤْدم بينكما. فأتى أبويها فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأة وهي في خِدْرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنها عظَّمت ذلك عليه، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها له.
443 - وسأله صلى الله عليه وسلم جرير عن نظرة الفجاءة، فقال: «اصرفْ بصرَك» .
444 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: عوراتُنا ما نأتي منها وما نَذَر؟ قال: «احفَظْ عَوْرتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك» ، قال: قلت: يا رسول الله إذا كان القومُ بعضهم في بعض، فقال: «إن استطعت أن لا يرينها أحدٌ فلا يَرينَّها» ، قال: قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خالياً، قال: «الله أحق أن يُسْتَحيا منه» .
445 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل أن يزوجه امرأة، فأمره أن يُصْدِقها شيئاً ولو خاتماً من حديد، فلم يجده، فقال: «ما معك من القرآن» ؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: «تقرؤهن عن ظهر قلب» ؟ قال: نعم، قال: «اذْهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن» .
446 - واستأذنته أم سَلمة في الحِجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها، قال: «حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلاماً لم يحتلم» .
447 - وأمر صلى الله عليه وسلم أم سلمة وميمونة أن يحتجبا من ابن أم مكتوم، فقالتا: أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ قال: «أفَعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» . فأخذت طائفة بهذه الفتوى، وحرمت على المرأة نظرها إلى الرجل، وعارضت طائفة أخرى هذا الحديث بحديث عائشة في الصحيحين أنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وفي هذه المعارضة نظر، إذ لعل قصة الحبشة كانت قبل نزول الحجاب، وخصت طائفة أخرى ذلك بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
448 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال: «نعم تستأمر» ، قالت عائشة رضي الله عنها: فإنها تستحي، فقال صلى الله عليه وسلم: «فذاك إذنها إذا هي سكتت» . وبهذه الفتوى نأخذ، وأنه لا بد من اسْتِئْمار البكر، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «الأيِّمُ أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأمَر في نفسها، وإذنها صُماتُها» وفي لفظ: «والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها» . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» ، قالوا: وكيف إذنُها؟ قال: «أن تسكت» وسألته صلى الله عليه وسلم جارية بكر، فقالت: إن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر باستئذان البكر، ونهى عن إنكاحها بدون إذنها، وخيَّرَ صلى الله عليه وسلم من نكحت ولم تستأذن، فكيف بالعدول عن ذلك كله ومخالفته بمجرد مفهوم قوله: «الأيِّم أحق بنفسها من وليها» ؟ كيف ومنطوقه صريح في أن هذا المفهوم الذي فهمه مَن قال تنكح بغير اختيارها غير مراد؟ فإنه قال عقيبه: «والبكر تستأذن في نفسها» ، بل هذا احتراز منه صلى الله عليه وسلم مِنْ حَمل كلامه على ذلك المفهوم كما هو المعتاد في خطابه كقوله: «لا يقتَل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» فإنه لما نفى قتل المسلم بالكافر أوهم ذلك إهدارَ دمِ الكافر، وأنه لا حرْمة له، فرفع هذا الوهم بقوله: «ولا ذو عهد في عهده» . ولما كان الاقتصار على قوله: «ولا ذو عهد» يوهم أنه لا يقتل إذا ثبت له العهد من حيث الجملة رفع هذا الوهم بقوله: «في عهده» وجعل ذلك قيداً لعصمة العهد فيه، وهذا كثير في كلامه صلى الله عليه وسلم لمن تأمله، كقوله: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» فإن نهيه عن الجلوس عليها لما كان ربما يوهم التعظيم المحذور رفعه بقوله: «ولا تصلوا إليها» . والمقصود: أن أمره باستئذان البكر ونهيه عن نكاحه بدون إذن
وتخييرها حيث لم تستأذن لا معارِض له؛ فيتيعن القول به، وبالله التوفيق.
449 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن صَدَاق النساء، فقال: «هو ما اصطلح عليه أهلوهم» ذكره الدارقطني. وعنده مرفوعاً: «أنكحوا اليتامى» ، قيل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال: «ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيباً من أراك» .
450 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خَسيسته، فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أَجَزْتُ ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم النساء أنْ ليس إلى لآباء من الأمر شيء.
451 - ولما هلك عثمان بن مظعون ترك ابنة له، فزوجها عمها قُدَامة من عبد الله بن عمر، ولم يتسأذنها؛ فكرهت نكاحه، وأحبت أن يتزوجها المغيرة بن شعبة؛ فنزعها من ابن عمر، وزوجها المغيرة، وقال: «إنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها» .
452 - وسأله صلى الله عليه وسلم مَرْثَد الغَنَوي فقال: يا رسول الله أنكح عَناقاً؟ وكانت بَغيًّا بمكة، فسكت عنه، فنزلت الآية: {الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (النور: 3) فدعاه فقرأها عليه، وقال: «لا تَنْكحها» .
453 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل آخرُ عن نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية.
454 - وأفتى صلى الله عليه وسلم بأن الزاني المجلودَ لا ينكح إلا مثله، فأخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها الإمام أحمد وَمَن وافقه، وهي من محاسن مذهبه رحمة الله عليه، فإنه لم يجوِّز أن يكون الرجل زوج قحبة، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر.
455 - وأسلم قيس بن الحارث وتحته ثمانُ نسوةٍ، فسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: «اختر منهن أربعاً» .
456 - وأسلم غَيلان وتحته عشر نسوة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهن أربعاً. وهما كالصريح في أن الخيرة إليه بين الأوائل والأواخر.
457 - وسأله صلى الله عليه وسلم فيروزُ الديلمي فقال: أسلمتُ وتحتي أختان، فقال: «طلق أيتهما شئت» .
458 - وسأله صلى الله عليه وسلم بَصْرَة بن أكتم، فقال: نكحت امرأة بكراً في سترها، فدخلت عليها، فإذا هي حُبْلَى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك. فإذا ولدت فاجلدوها، وفرق بينهما» . ولا يشكل من هذه الفتوى إلا مثل عُبُودية الولد، والله أعلم.
459 - وأسلمت امرأة على عهده صلى الله عليه وسلم، فتزوجت، فجاء زوجها فقال: يا رسول الله إني كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي؛ فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى الأول.
460 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقاً حتى مات، فقضى لها على صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث. ذكره أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره، وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها.
461 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة تزوجت ومرضت، فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يَصِلُوه، فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» .
462 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن العزل، قال: «أو إنكم لتفعلون» ؟ قالها ثلاثاً، «ما من نَسْمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» . ولفظ مسلم: «ألا عليكم أن لا تفعلوا: ما كتب الله عز وجل خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون» .
463 - وسئل صلى الله عليه وسلم أيضاً عن العزل فقال: «ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء» .
464 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فقال: إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موؤودة صُغْرَى، فقال: «كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه» .
465 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فقال: عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يمنع شيئاً أراده الله» . فجاء الرجل فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال: «أنا عبد الله ورسوله» .
466 - وعنده أيضاً: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؛ فقال: «اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها» فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: «قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» .
467 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر عن ذلك فقال: «لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرجه الله منها، وليخلقن الله عز وجل نفساً هو خالقها» .
468 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال: «لم تفعل ذلك» ؟ فقال: إني أشفق على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان ذلك ضاراً ضر فارس والروم» ، وفي لفظ: «إن كل كذلك فلا، ما ضر ذلك فارس والروم» .
فصل عن وطء المرأة
469 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار عن التَّجْبية، وهي وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (البقرة: 223) «صماماً واحداً» .
470 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هلكتُ، قال: «وما أهلكك» ؟ قال: حولت رَحْلي البارحة، فلم يردَّ عليه شيئاً؛ فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُو?اْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (البقرة: 223) «أقبل وأدْبِر واتقوا الحيضة والدبر» . وهذا هو الذي أباحه الله ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر، وقد قال: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» ، وقال: «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدّقه فقد كفر بما أُنزل على محمد» .
471 - وقال: «إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» .
472 - وقال: «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر» .
473 - وقال في الذي يأتي امرأته في دبرها: «هي اللوطية الصغرى» ، وهذه الأحاديث جميعها ذكرها أحمد في المسند.
عن حق امرأة
474 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: «أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت» .
فصل عن أحكام الرضاع
475 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين فقالت: إن أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن عليَّ؛ وكانت امرأته أرضعتني، فقال: «ايذني له، إنه عمك» .
476 - وسأله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: إني كانت لي امرأة، فتزوجْتُ عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثاء رَضْعة أو رضعتين، فقال: «لا تحرم الإمْلاجة ولا الإملاجتان» .
477 - وسألته صلى الله عليه وسلم سَهْلة بنت سهيل: فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال: «أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة» فرجعت فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فأخذت طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة، ولم يأخذ بها أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديثَ توقيت الرضاع المحرَّم بما قبل الفطام وبالصغر وبالحولين لوجوه: أحدها: كثرتها وانفراد حديث سالم. الثاني: أن جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خلا عائشة رضي الله عنهن في شق المنع. الثالث: أنه أحْوط. الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحماً ولا ينشر عظماً، فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم. الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصاً بسالم وحده، ولهذا لم يجىء ذلك إلا في قصته.
478 - السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخلأ من الرضاعة، فقال: «انظرن مَنْ إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة» . وفي قصة سالم مَسْلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة؛ فإن سالماً كان قد تبنَّاه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دَعَتِ الحاجة إلى مثل ذلك فالقولُ به مما يسوغ، فقيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يَجنح، والله أعلم.
479 - وسئل صلى الله عليه وسلم أن ينكح ابنة حمزة، فقال: «لا تحل لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» .
480 - وسأله صلى الله عليه وسلم عقبة بن الحارث فقال: تزوجت امرأة، فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما، وهي كاذبة؛ فأعرض عنه، فقال: إنها كاذبة، فقال: «كيف بها وقد زعمت بأنها أرضعتكما؟ دَعْها عنك»، ففارقها وأنكحت غيره» . ذكره مسلم. وللدارقطني: دعها عنك فلا خير لك فيها.
481 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ما يذهب عني مَذِمَّةَ الرضاع؟ فقال: «غُرَّةٌ، عَبْد أو أمَة» . ذكره الترمذي وصححه، والمذمة -ـ بكسر الذال -ـ من الذِّمام، لا من الذم الذي هو نقيض المدح، والمعنى أن للمرضعة على المرضع حقاً وذِماماً، فيذهبه عبد أو أمة فيعطيها إياه.
482 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما الذي يَجُوز من الشهود في الرضاع؟ فقال: «رجل أو امرأة» .
فصل من فتاويه صلى الله عليه وسلم في الطلاق
483 - ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأله عن طلاق ابنهِ امرأتهُ وهي حائض، فأمر بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أن يطلق بعد فلْيطلق.
484 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إن امرأتي، وذكر من بَذائها، فقال: «طلقها» ، فقال: إن لها صحبة وولداً، قال: «مُرْها وقل لها، فإن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظَعينَتَكَ ضَرْبك أَمَتَك» .
485 - وسأله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تردُّ يَدَ لامس، قال: «غيِّرها إن شئت» ، وفي لفظ: «طلقها» ، قال: إني أخاف أن تتبعها نفسي، قال: «فاستمتع بها». فعورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديثُ المحكمة الصريحة في المنع من تزويج البغايا، واختلفت مَسالك المحرمين لذلك فيه. فقالت طائفة: المراد باللامس ملتمسُ الصدقة، لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على زانية؛ فهذا هو الحرام. وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً؛ فأمره حينئذٍ بإمساكها؛ إذ مُواقعتها بعد عقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمتنع ممن لمسها أو وضع يده عليها أو نحو ذلك؛ فهي تعطي اللِّيان لذلك، ولا يلزم أن تعطيَه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها لداعي الفاحشة، فأمره بفراقها تركاً لما يريبه إلا ما لا يريبه، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكِها أرْجَحَ نمن مفارقتها لما يكره من عدم انقباضها عمن يلمسها، فأمره بإمساكها، وهذا لعله أرجح المسالك، والله أعلم.
عن الطلاق الثلاث
486 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقال: إن زوجي طلقني، يعني: ثلاثاً، وإني تزوجت زوجاً غيره، وقد دخل بي، فلم يكن معه إلا مثل هُدْبَة الثوب، فلم يَقْرَبني إلا بهنَةٍ واحدة، ولم يصل مِنِّي إلى شيء، أفأحل لزوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلِّينَ لزوجك الأول حتى يذوقَ الآخرُ عُسيْلَتَكِ وتذوقي عُسَيْلَتَهُ» .
487 - وسئل صلى الله عليه وسلم أيضاً عن الرجل يطلق امرأته ثلاثاً، فيتزوجها الرجل فيغلق الباب، ويُرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، قال: «لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر» .
488 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن التيس المستعار فقال: «هو المحلل» ، ثم قالُّ: «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» .
489 - وسألته امرأة عن كفر المنعمين، فقال: لعل إحْدَاكن أن تطول أيْمَتها بين يدي أبويها تَعْنُس، فيرزقها الله زوجها، ويرزقها منه مالاً وولداً، فتغضب الغضبة، فتقول: «ما رأيت منه يوماً خيراً قط» .
490 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» ؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله أَلاَ أقتله؟.
491 - وطلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأتَهُ ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف طلقتها» ؟ فقال: طلقتها ثلاثاً، فقال: «في مجلس واحد» ؟ فقال: نعم، قال: «إنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت» قال: فراجعها، فكان ابن عباس يروي «إنما الطلاق عند كل طهر» ذكره أحمد، قال: حدثنا سعيد بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس، فذكر،ه، وأحمد يصحح هذا الإسناد، ويحتج به، وكذلك الترمذي.
492 - وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جُريج قال: أخبرني بعضُ بني رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس، قال: طلَّق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أمَّ ركانة ونكح امرأة من مُزَينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يُغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذَتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حَمِيَّته، فدعا بُركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: «أترون أن فلاناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، وفلاناً منه كذا وكذا» ؟ قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: «طلِّقها» ، ففعل، فقال: «راجع امرأتك أم ركانة وإخوته» فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: «قد علِمْتُ، راجعها» ، وتلا: {ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } (الطلاق: 1).
493 - قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الرزاق، فذكره، فهذه طريقة أخرى متابعة لابن إسحاق، والذي يُخافُ من ابن إسحاقٍ التدليسُ، وقد قال: حدثني، وهذا مذهبه، وبه أفتى ابن عباس في إحدى الروايتين عنه، صح عنه ذلك، وصح عنه إمضاء الثلاث موافقة لعمر رضي الله عنه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الثلاث كانت واحدة في عَهْده وعهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما، وغاية ما يقدر مع بُعده أن الصحابة كانوا على ذلك ولم يبلغه. وهذا وإن كان كالمستحيل فإنه يدلُّ على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك، وقد أفتى هو صلى الله عليه وسلم به، فهذه فتواه وعملُ أصحابه كأنه أخذ باليد ولا معارض لذلك. ورأى عمر رضي الله عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبةً وزجراً لهم لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، غايته أن يكون سائغاً لمصلحة رآها، ولا يوجب ترك ما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه أصحابه في عَهْده وعهد خليفته، فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء، وبالله التوفيق. عن «إن تزوجت فلانة فهي طالق»
494 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثاً، فقال: «تزوجها، فإنه لا طلاق إلا بعد النكاح» .
495 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، فقال: «طَلَّقَ ما لا يملك» .
496 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبد فقال: إن مولاتي زوجَتْني، وتريد أن تفرق بيني وبين امرأتي، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بالُ أقوامٍ يزوجون عبيدهم إماءهم، ثم يريدون أن يفرقوا بينهم، ألا إنما يملك الطلاقَ من أخذ بالساق» .
497 - وسأله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس: هل يصلح أن يأخذ بعضَ مال امرأته ويفارقها؟ قال: «نعم» ، قال: فإني قد أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خذهما وفارقها» ذكره أبو داود، وكانت قد شكَتْه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحبُّ فراقه كما ذكره البخاري أنها قالت: يا رسول الله ثابتُ بن قيس ما أعِيبُ عليه في خُلُق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال: «أتردين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْبَلِ الحديقة وطلقها تطليقة» . وعند ابن ماجة : إني أكره الكفر في الإسلام، ولا أطيقه بغضاً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. وعند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها أن تتربَّصَ حيضة واحدة، وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتدَّ بحيضة واحدة.
498 - وأفتى النبي صلى الله عليه وسلم «أن المرأة إذا ادَّعَتْ طلاقَ زوجها، فجاءت على ذلك بشاهدٍ عدلٍ استحلفت زوجها، فإن حلف بطلتْ شهادة الشاهد، وإن نَكَل فنُكُوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه» .
499 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل ظَاهَرَ من امرأته، ثم وقع عليها قبل أن يُكفِّر، قال: «وما حملك على ذلك يرحمك الله» ؟ قال: رأيت خلْخَالها في ضوء القمر، قال: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل» حديث صحيح.
500 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: لو أن رجلاً وَجَدَ مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قَتَلَ قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال: «اللهم افْتَحْ، وجعل يدعو، فنزلت آية اللِّعان، فابتلى به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعَنا» .
501 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل آخر فقال: إنَّ امرأتي ولدت على فراشي غلاماً أسود، وإنا أهل بيتٍ لم يكن فينا أسود قط، قال: «هل لك من إبل» ؟ قال: نعم، قال: «فما ألوانها» ؟ قال: حُمر، قال: «هل فيها من أوْرَق» ؟ قال: نعم، قال: «فأنَّى كان ذلك» ؟ قال: عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرق، قال: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق» .
502 - وحكم بالفرقة بين المتلاعنين، وأن لا يجتمعا أبداً، وأخْذِ المرأة صداقَها، وانقطاع نسب الولد من أبيه، وإلحاقه بأمه، ووجود الجلد على مَنْ قذفه أو قَذَف أمه، وسقوط الحد عن الزوج، وأنه لا يلزمه نفقة، ولا كُسْوة ولا سُلْني بعد الفرقة.
503 - وسأله صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخْر البَياضي فقال: ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فلم ألبث أن نَزَوْتُ عليها، فقال: «أنت بذاك يا سلمة» ، فقلت: أنا بذاك فأنا صابر لأمر الله عز وجل، فاحكم فيَّ بما أراك الله، قال: «حَرِّرْ رقبة» ، قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربْتُ صفحة رقبتي، قال: «فَصُمْ شهرين متتابعين» فقلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: «فأطْعِمْ وَسْقاً من تمر بين ستين مسكيناً» ، قلت: والذي بعثكَ بالحق نبياً لقد بتْنا وَحْشَيْن ما لنا من طعام، قال: «فانطلق إلى صاحب صدقة بني زُرَيق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكيناً وَسقاً من تمر، وكل أنت وعيالَك بقيتها» فرجعتُ إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعة وحسن الرأي، وأمر لي بصدقتكم.
504 - وسألته صلى الله عليه وسلم خَولَة بنت مالك، فقالت: إن زوجها أوسَ بن الصامت ظاهرَ منها، وشكته إلى رسور الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُجادلها فيه بقوله: «اتق الله فإنه ابن عمك» ، فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى? إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة: 1) الآيات. فقال: «يعتق رقبة» ، قالت: لا يجد، قال: «فيصوم شهرين مُتَتابعين» ، قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكيناً» قالت: ما عندهُ من شيء يتصدق به، فأتى ساعته بعَرَق من تمر، قلت: يا رسول الله إني أُعينه بعَرَق آخر، قال: «أحسنت» ، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك. ذكره أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد: قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساءَ خُلقه وضجر، قالت: فدخل عليَّ يوماً، فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت عليَّ كَظَهرِ أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: قلت: كلا، والذي نفس الخوَيلة بيده لا تخلص إلي، وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكم، قالت: فواثبني، فامتنعتُ منه، فغلبتُه بما تغلب المرأة الشيخَ الضعيفَ، فألقيته عني، ثم خرجت إليَّ بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خُويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه» قالت: فوالله ما برحتُ حتى نزل القرآن، فتغشَّى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال: «يا خُوَيلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك» ثم قرأ
عَليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى? إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة: 1). إلى قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (المجادلة:
4) قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرِيه فليعتق رقبة» ، وذكر نحو ما تقدم. وعند ابن ماجة أنها قالت: يا رسول الله أكلَ شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي ظاهَرَ مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحتُ حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات.
فصل فتاويه صلى الله عليه وسلم في العدد
505 - ثبت أن سُبيعة سألته وقد مات زوجها ووضعت حملها بعد موته، قالت: فأفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد حللت حين وضعت حَمْلي، وأمرني بالتزويج إن بَدَا لي. وعند البخاري أنها سئلت، كيف أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أفتاني إذا وضعتُ أن أنكح.
فصل الولد للفراش
511 - واختصم إليه صلى الله عليه وسلم سعدُ بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَة في الغلام، فقال سعد: هو ابن أخي عُتبة بن أبي وقاص عهدَ إليَّ أنه ابنه، انظرْ إلى شبهه، وقال عبد بن زَمعة: هو أخي، ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيِّناً بعتبة، فقال: «هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهِر الحجَر، واحتجبي منه يا سوْدة» ، فلم تره سودة قط. وفي لفظ البخاري: «هو أخوك يا عبد» .
512 - وعند النسائي: «واحتجبي منه يا سَوْدة فليس لك بأخ» وعند الإمام أحمد: «أما الميراث فله، وأما أنت فاحتجبي منه. فإنه ليس لك بأخ» ، فحكم وأفتى بالولد لصاحب الفراش عملاً بموجب الفراش، وأمر سودة أن تحتجب منه عملاً بشبهه بعتبة، وقال: «ليس لك بأخ» ، للشبهة، وجعله أخاً في الميراث. فتضمنت فتواه صلى الله عليه وسلم أن الأمَة فراش، وأن الأحكام تتبعَّض في العين الواحدة عملاً بالاشتباه، كما تتبعَّض في الرضاعة، وثبوتها لها الحرمة والمَحرَمِيَّة دون الميراث والنفقة، وكما في ولد الزنا، هو ولد في التحريم، وليس ولداً في الميراث، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر، فيتعين الأخذ بهذا الحكم والفتوى، وبالله التوفيق.
عن الإحداد على الميت
513 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» ، مرتين أو ثلاثاً.
514 - ومنع صلى الله عليه وسلم المرأة أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج؛ فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً، ولا تكتحل، ولا تطيب، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، ورخص لها في طهرها إذا اغتسلت في نُبْذَةٍ من قسْطٍ أو أظفار.
515 - وعند أبي داود والنسائي: «ولا تختضب» وعند النسائي: «ولا تَمْتشِطْ» ، وعند أحمد: «لا تلبس المُعْصفر من الثياب، ولا الشقة الممَشقة، ولا تحلى ولا تختضب ولا تكتحل» .
516 - وجعلت أم سلمة رضي الله عنها عينيها صَبراً لما توفي أبو سلمة، فقال: «ما هذا يا أم سلمة» ؟ قالت إنما هو صَبرٌ ليس فيه طيب، قال: «إنه يَشبُّ الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء فإنه خضاب» قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: «بالسدر تغلفين به رأسك» . وعند أبي داود: «فلا تجعلينه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار» .
517 - وسألته صلى الله عليه وسلم خالة جابر بن عبد الله وقد طلقت: هل تخرج تَجُدُّ نخلها؟ فقال: «فجُدِّي نخلك؛ فإنك عسى أن تتصدقي أو تفعلي معروفاً» .
فصل في فتواه صلى الله عليه وسلم في نفقة المعتدة وكسوتها
518 - ثبت أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ألبتة فخاصمته في السكنى والنفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فلم يجعل لي سكن ولا نفقة.
518 - ثبت أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ألبتة فخاصمته في السكنى والنفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فلم يجعل لي سكن ولا نفقة.
520 - وعنده أيضاً: «إنما السكنى والنفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى» .
521 - وفي صحيح مسلم عنها: طلقني زوجي ثلاثاً، فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة.
522 - وفي رواية لمسلم أيضاً؛ أن أبا عمرو بن حفص خرج مع علي كرم الله وجهه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته بتطليقة بقيت من طلاقها، وأمر عياش بن أبي ربيعة، والحارث بن هشام أن ينفقَا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة، إلا أن تكون حاملاً فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولها، فقال: «لا نفقة لك» ، فاستأذنته في الانتقال، فأذن لها، فقالت له: أين يا رسول الله؟ فقال: «عند ابن أم مكتوم» ، وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يراها، فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته فقال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة خين بلغها قولُ مروان: بيني وبينكم القرآن، قال تعالى: {ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }(أول الطلاق) الآية، قالت: هذا لمن كانت له مُرَاجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
523 - وأفتى صلى الله عليه وسلم بأن للنساء على الرجال رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
524 - وسئل صلى الله عليه وسلم ما تقول في نسائنا؟ فقال: «أطْعِمُوهُنَّ مما تأكلون، وأكسُوهُنَّ مما تلبسون، ولا تضربوهن، ولا تقبِّحوهن» .
525 - وسألته صلى الله عليه وسلم هند امرأة أبي سفيان فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . ما تضمننه الفتوى السابقة فتضمنت هذه الفتوى أموراً: أحدها : أن نفقة الزوجة غير مُقدَّرة، بل المعروف ينفي تقديرها، ولم يكن تقديرها معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم. الثاني: أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد كلاهما بالمعروف. الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده. الرابع: أن الزوج أو الأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف. الخامس : أن المرأة إذا قَدَرَتْ على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل. السادس: أن ما لم يقدره الله ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف. السابع: أن ذم الشاكي لخصمه بما هو فيه حال الشكاية لا يكون غيبة، فلا يأثم به هو ولا سامعه بإقراره عليه. الثامن: أن من منع الواجب عليه وكان سبب ثبوته ظاهراً فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً، وأفتى به صلى الله عليه وسلم الضيف إذا لم يَقره مَنْ نزل عليه، كما في سنن أبي دَاود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليلة الضيف حق على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان دَيناً عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه» وفي لفظ: «مَنْ نزل بقوم فعليهم أن يَقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك، كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك» .
526 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: مَنْ أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» ، قال: ثم مَنْ؟ قال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمك» ، قال ثم من؟ قال: «أبوك» . زاد مسلم: «ثم أدْنَاكَ فَأدْنَاكَ» . قال الإمام أحمد: للأم ثلاثة أرباع البر، وقال أيضاً: الطاعة للأب، وللأم ثلاثة أرباع البر، وعند الإمام أحمد قال: ثم الأقرب فالأقرب. وعند أبي داود أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أبر؟ قال: «أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ومولاك، الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» .
فصل في الحضانة
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها خمس قضايا:
527 - إحداها: قضى بابنة حمزة لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقال: «الخالة بمنزلة الأم» ، فتضمن هذا القضاء أن الخالة مقام الأم في الاستحقاق، وإن تزوجها لا يُسْقط حضانتها إذا كانت جارية.
528 - القضية الثانية: أن رجلاً جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصمَ فيه هو وأمه، ولم تسلم الأم، فأجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبَ ها هنا وأجْلَسَ الأم ها هنا، ثم خير الصبي، وقال: «اللهم اهْدِهِ» ، فذهب إلى أمه. 528 - القضية الثانية: أن رجلاً جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصمَ فيه هو وأمه، ولم تسلم الأم، فأجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبَ ها هنا وأجْلَسَ الأم ها هنا، ثم خير الصبي، وقال: «اللهم اهْدِهِ» ، فذهب إلى أمه.
529 - القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ابنتي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحية، وقال لها: اقعدي ناحية، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال: «ادْعُوَا لها» ، فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدها» ، فمالت إلى أبيها فأخذها.
530 - القضية الرابعة: جاءته امرأة فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَهما عليه» ، فقال زوجها: مَنْ يُحاقُّني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أبوك وهذه أمك» ؛ فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به.
531 - القضية الخامسة: جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بَطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحِجْري له حِوَاء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها: «أنْتِ أحقُّ به ما لم تنكحي» . وعلى هذه القضايا الخمس تدور الحضانة، وبالله التوفيق.
فصل من فتاويه صلى الله عليه وسلم في باب الدماء والجنايات
532 - سئل صلى الله عليه وسلم عن الآمر والقاتل، فقال: «قسمت النار سبعين جزءاً، فللآمر تسع وستون، وللقاتل جزء».
533 - وجاءهُ رجل فقال: إن هذا قتل أخي، قال: «اذْهَب فاقتله كما قتل أخاك» ، فقال له الرجل: اتق الله واعْفُ عني، فإنه أعظَمُ لأجرك، وخير لك يوم القيامة، فخلى عنه، فأخبر النبي، فسأله فأخبره بما قال له، فقال له: «أما إنه خير مما هو صانع بك يوم القيامة» ، تقول: يا رب سل هذا: فيم قتل أخي.
534 - وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل بآخر قد ضرب ساعده بالسيف فقَطعها من غير مفصل، فأمر له بالدية، فقال: أريد القصاص، فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» ، ولم يقض له بالقصاص.
535 - وأفتى صلى الله عليه وسلم بأنه إذا أمسك الرجلُ الرجلَ وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك.
536 - ورفع إليه صلى الله عليه وسلم يهودي قد رضَّ رأس جارية بين حجرين، فأمر به أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين..
537 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن شبه العمد مغلَّظ مثل العمد، ولا يقتل صاحبه.
538 - وقضى صلى الله عليه وسلم في الجنين يسقط من الضربة بغرَّة عبد أو أمةٍ.
539 - وقضى صلى الله عليه وسلم في قتل خطأ شبه العمد بمائة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادُها.
540 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل مسلم بكافر.
541 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل الوالد بالولد.
542 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن يعقل المرأة عَصَبتها من كانوا ولا يرثون عنها، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فَعقلها بين ورثتها، فهم يقتلون قاتلها.
543 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن الحامل إذا قتلت عمداً لم تقتل، حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها، وإن زَنَتْ ختى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها.
544 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدي وإما أن يقتل.
545 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن من أصيب بدم أو خبْلٍ، والخبل: الجراح، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه. أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية، فمن فعل شيئاً من ذلك فعاد فإن له نار جهنم خالداً مخلداً أبداً فيها، يعني قتل بعد عفوه وأخذه الدية، أو قتل غير الجاني.
546 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن لا يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه.
547 - وقضى صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أُوعب جدعاً بالدية، وإذا جدعت أرنبته بنصف الدية.
548 - وقضى صلى الله عليه وسلم في العين بنصف الدية خمسين من الإبل، أو عَدْلها ذهباً أو ورِقاً، أو مائة بقرة، أو ألف شاة، وفي الرَّجلِ نصف العقل، وفي اليد نصف العقل؛ والمأمومة ثلث العقل، والمنْقِلة خمس عشرة من الإبل، والموضحة خمس من الإبل، والأسنان خمس خمس.
549 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن الأسنان سواء: الثَنِيَّة والضِرْس سواء.
550 - وقضى صلى الله عليه وسلم في دية أصابع اليدين والرجلين بعشر عشرٍ.
551 - وقضى صلى الله عليه وسلم في العين العوراء السادَّة لمكانها إذا طمست بثلث الدية، وفي اليد الشَّلاَّء إذا قطعت ثُلث ديتها.
552 - وقضى صلى الله عليه وسلم في اللسان بالدية، وفي الشفتين بالدية، وفي البيضتين بالدية، وفي الذكر بالدية، وفي الصلب بالدية، وفي العينين بالدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وأن الرَّجُلَ يقتل بالمرأة.
553 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن من قُتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثُون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة ابن لبون. وعند أبي داود: عشرون حقة، وعشرون جذَعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر.
554 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن من قُتِلَ متعمداً دُفعَ إلي أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حِقة، وثلاثون جذَعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم.
555 - وقضى صلى الله عليه وسلم على أهل الإبل بمائة من الإبل، وعلى أهل البقر بمائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
556 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن عقلَ المرأة مثل عقل الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديتها.
557 - وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقلَ أهل الذمة نصف عقل المسلمين.
558 - وعند الترمذي: عقل الكافر نصفُ عقل المؤمن، حديث حسن، يصحح مثله أكثر أهل الحديث.
559 - وعند أبي داود: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم، فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية.
560 - وقضى صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة ضربتها أخرى بغرَّةٍ عبدٍ أو أمةٍ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها.
561 - وقضى صلى الله عليه وسلم في امرأتين قتلت إحداهما الأخرى ولكل منهما زوج بالدية على عاقلة القاتلة، وميراثها لزوجها وولدها، فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا، ميراثها لزوجها وولدها» .
562 - وجاءه صلى الله عليه وسلم عبد صارخ فقال: «ما لكَ» ؟ قال: سيدي رآني أقبل جارية له فجبَّ مذاكيري، فقال: «عليَّ بالرجل» ، فطلب فلم يُقدرْ عليه فقال: «اذهب فأنت حر» ، قال: على من نصرتي يا رسول الله؟ قال: «على كل مؤمن» ، أو «مسلم» .
563 - وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال دية العاضِّ لما انتزع المعضوضُ يده من فيه، فأسقط ثنيَّتة.
564 - وقضى صلى الله عليه وسلم بأن من اطلعَ في بيت قوم بغير إذنهم فخذفوه ففقؤوا عينه بأنه لا جُناح عليهم. وعند مسلم: فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه، وعند الإمام أحمد في هذا الحديث: فلا دية له ولا قصاص.
565 - وقضى صلى الله عليه وسلم أنه لا دية في المأمومة ولا الجائفة ولا المُنقلة.
566 - وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل يقود آخر بنسعةٍ، فقال: هذا قتل أخي، فقال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختطب من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه، فقتلته، فقال: هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ قال: ما لي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهونُ على قومي من ذلك، فقال: دونك صاحبك، فانطلق به، فلما ولَّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قَتَلَه فهو مثله» ، فرجع فقال: يا رسول الله بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله، وأخذتُه بأمرك، فقال: «أما تريد أن يبوءَ بإثمك وإثم صاحبك؟» قال: يا نبي الله بلى، فرمى بنِسْعته، وخلَّى سبيله. وقد أشكل هذا الحديثُ على منْ لم يُحط بمعناه، ولا إشكال فيه؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «إن قتله فهو مثله،» لم يرد به أنه مثله في الإثم، عنى به أنه إن قتله لم يبق عليه إثم القتل، لأنه قد استوفى منه في الدنيا، فيستوي هو والولي في عدم الإثم، أما الولي فإنه قتله بحق، وأما هو فلكونه قد اقتص منه، وأما قوله: «تبوء بإثمك وإثم صاحبك،» فإثم الولي مظلمته بقتل أخيه، وإثم المقتول إراقة دمه، وليس المراد أنه يحمل خطاياك وخطايا أخيك والله أعلم.
567 - وهذه غير قصة الذي دفع إليه وقد قتل، فقال: والله ما أردت قتله، فقال: «أما إن كان صادقاً فقتلته دخلتَ النار» ، فخلاَّه الرجل، صححه الترمذي، وإن كانت هي القصة فتكون هذه علة كونه إن قتله فهو مثله في المأثم، والله أعلم.
فصل عن القسامة
568 - وأقر صلى الله عليه وسلم القسامة على ما كانت عليه قبل الإسلام، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود.
569 - وقضى صلى الله عليه وسلم في شأن مُحيِّصة بأن يُقسم خمسون من أولياء القتيل على رجل من المتهمين، فيدفع برمته إليه، فأبوا، فقال: «برئكم يهود بأيمان خمسين،» فأبوا، فوَداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة من عنده. وعند مسلم: بمائة من إبل الصدقة، وعند النسائي: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم، وأعانهم بنصفها.
570 - وقضى صلى الله عليه وسلم أنه: لا تجني نفس على أخرى.
571 - ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده. والمراد: أنه لا يؤخذ بجنايته، فلا تَزِرُ وازرة وزْرَ أخرى.
572 - وقضى صلى الله عليه وسلم: أن من قتل في عَمِيَّا أو رِمِّيَّا لكونه بينهم بحَجَر أو سوط فعقلُه عقلُ خطأ، ومن قتل عمْداً فقَودُ يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
573 - وقضى صلى الله عليه وسلم: أن المعدِن جُبار، والعجماءُ جُبار، والبئر جُبار. وفي قوله: المعدن جُبار قولان أحدهما: أنه إذا استأجر من يحفر له معدِناً فسقط عليه فقتله فهو جُبار، ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: «البئر جبار والعجماء جبار». والثاني: أنه لا زكاة فيه، ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: وفي الرِّكاز الخمس، ففرَّق بين المعدن والركاز، فأجبَ الخمس في الركاز؛ لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلْفة ولا تعب، وأسقطها عن المعدن؛ لأنه يحتاج إلى كلفة وتَعب في استخراجه، والله أعلم.
في حد الزنا
574 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، وإني سألتُ رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جَلْدَ مائة وتغريبَ عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، المائة والخادم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغْدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارْجُمهما» ، فاعترفت فرجَمها.
575 - وقضى صلى الله عليه وسلم فيمن زنى ولم يُحْصَنْ بنفي عام وإقامة الحد عليه.
576 - وقضى صلى الله عليه وسلم أن الثيب بالثيب جلد مائة ثم الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة.
577 - وجاءه اليهود فقال: إن رجلاً منهم وامرأة زَنيا، فقال لهم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» ؟ فقالوا: نَفضحُهم ويُجْلدون، فقال عبد الله بن سَلام: كذبتم إن فيها الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها؛ فوضَعَ أحدهم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما بعدها وما قبلها، فقال له عبدُ الله بن سلام: ارْفع يَدَك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صَدَقَ يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما فرجما.
578 - ولأبي داود أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقالوا: اذهبوا به إلى هذا النبي؛ فإنه بُعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها منه، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: إنها فتيا نبي من أنبيائك؛ فأتوه وهو جالس في المسجد في الصحابة، فقالوا: يا أبا القاسم ما تَرَى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مِدْراسهم، فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أُحْضن» ؟ قالوا: يُحَمَّمُ ويُجَبَّه ويُجلد، والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، وبطاف بهما، فسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت نظر إليه وأنشده فقال: اللهم إذْ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟» قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأُخر عنه الرجم؛ ثم زنى رجل في أُسرة من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا يُرْجمُ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه. فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أحكم بما في التوراة» فأمر بهما فرجما.
579 - وعند أبي داود أيضاً أنه دعا بالشهود؛ فجاءه أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل المِيلِ في المكحلة.
580 - وسأله صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك أن يُطَهره. وقال: إني قد زنيت، فأرسل إلى قومه: «هل تعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً» ؟ قالوا: ما نعلمه إلا أوفى العقل من صالحينا فيما نرى، فأقرَّ أربعَ مرات، فقال له في الخامسة: «أنِكتها» ؟ قال: نعم، قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها» ؟ قال: نعم. قال: «كما يغيب المِرْود في المكحلة والرِّشاءُ في البئر» ؟ قال: نعم، قال: «فهل تدري ما الزنى» ؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: «فما تريد بهذا القول» ؟ قال: أريد أن تطهرني، فأمر رجلاً فاستنكهه، ثم أمر به فرجم، ولم يحفر له، فلما وجد مَسَّ الحجارة فَرَّ يشتد حتى مر برجل معه لَحْيُ جمل، فضربه وضربه الناس حتى مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا تركتموه وجئتموني به» . وفي بعض طرق هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «شهدت على نفسك أربع مرات، اذهبوا به فارجموه» . وفي بعضها: فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبك جنون» ؟ قال: لا، قال: «أهل أحصنت» ؟ قال: نعم، قال: «اذهبوا به فارجموه» . وفي بعض طرقها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تَدَعْه نفسه، ختى رجم رَجْمَ الكلب، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه، فقال: «أين فلان وفلان» ؟ فقالا: نحن ذان يا رسول الله، فقال: «انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار» ، فقالا: يا نبي الله من يأكل هذا؟ قال: «فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشدُّ أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمِس فيها» . وفي بعض طرقها أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «لعلك رأيت في منامك» ، «لعلك استكرهت» ، وكل هذه
الألفاظ صحيحة. وفي بعضها أنه أمر فحفرت له حفيرة، وفي غلط، من رواية بشير بن المهاجر، وإن كان مسلم قد روى له في الصحيح، فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم الرازي قد تكلما فيه، وإنما حصل إليهما من حفرة الغامدية، فسرى إلى ماعز، والله أعلم.
581 - وجاءته صلى الله عليه وسلم الغامدية، فقالت: إني قد زنيت فَطهِّرْني، وإنه رددها، فقالت: ترددني كما ردَّدت ماعزاً فوالله إني لحبلى، فقال: «اذهبي حتى تَلِدِي» ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، فقالت: هذا قد ولدته، فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» ، فلما فطمته أتته به وفي يده كسرة من خبز، فقالت: «هذا قد فطمته وأكل الطعام» ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه، فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مَكس لغفر له» ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت.
582 - وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حَدًّا فأقمه عليَّ، ولم يسأله عنه، وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حَدًّا فأقم فيَّ كتاب الله، قال: «أليس قد صليت معنا» ؟ قال: نعم، قال: «فإن الله قد غفر لك ذنبك» أو قال: «حَدَّك» . وقد اختلف في وجه هذا الحديث، فقالت: طائفة: أقر بحد لم يُسَمِّه فلم يجب على الإمام استفصاله، ولو سماه لحده كما حد ماعزاً، وقالت طائفة: بل غفر الله له بتوبته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القُدْرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى كما تسقط عن المحارب، وهذا هو الصواب.
583 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أصبت من امرأة قُبلة، فنزلت:{وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ }(هود: 114)، فقال الرجل: ألِيَ هذه؟ فقال: «بل لمن عمل بها من أمتي» . وقد استدل به من يرى أن التعزير ليس بواجب، وأن للإمام إسقاطه، ولا دليل فيه، فتأمله.
584 - وخرجت امرأة تريد الصلاة، فتجللها رجل فقضى حاجته منها، فصاحت، ومر، ومر عليها غيره فأخذوه، فظنت أنه هو وقالت: هذا الذي فعل بي، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر برجمه، فقام صاحبها الذي وقع عليها، فقال: أنا صاحبها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبي فقد غفر الله لك» ، وقال للرجل قولاً حسناً، فقالوا: ألا ترجم صاحبها؟ فقال: «لا، لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم» ، ولا فتوى ولا حكم أحسن من هذا. فإن قيل: كيف أمر برجم البريء؟. قيل: لو أنكر لم يرجمه؛ ولكن لما أُخذ وقالت: هو هذا، ولم ينكر ولم يحتجَّ عن نفسه، فاتفق مجيء القوم به في صورة المريب، وقول المرأة هذا هو، وسكوته سكوت المريب، وهذه القرائن أقوى من قرائن حد المرأة بلعان الرجل وسكوتها، فتأمله. تأثير اللوث في الدماء وغيرها ولِلَّوْث تأثير في الدماء والحدود والأموال: أما الدماء ففي القسامة، وأما الحدود ففي اللعان، وأما الأموال ففي قصة الوصية في السفر، فإن الله تعالى حكم بأنه إن اطلع على أن الشاهدين والوصيين ظلما وغدرا أن يحلف اثنان من الورثة على استحقاقهما، ويقضي لهم، وهذا هو الحكم الذي لا حكم غيره، فإن اللوث إذا أثر في إراقة الدماء وإزهاق النفوس وفي الحدود فلأن يعمل به في المال بطريق الأولى والأحرى، وقد حكم به نبي الله سليمان بن داود في النسب مع اعتراف المرأة أنه ليس بولدها، بل هو ولد الأخرى، فقال لها: هو ابنك. ومن تراجم النسائي على قصته: التوسعة
للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: أفعَلُ كذا ليستبين به الحق، ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال: الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به، وهذا هو العلم استنباطاً ودليلاً، ثم ترجم عليه ترجمة ثالثة فقال: نقض الحاكم ما حكم به مَنْ هو مثله أو أجلُّ منه. قلت: وفيه رد لقول من قال: يكون بينهما إجراء للنسب مُجْرَى المال، وفيه أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في الباطن، وفيه نوع لطيف شريف عجيب من أنواع العلم النافع، وهو الاستدلال بقدر الله على شرعه؛ فإن سليمان عليه السلام استدل بما قدره الله وخلقه في قلب الصغرى من الرحمة والشفقة بحيث أبَتْ أن يشق الولدُ، على أنه ابنها، وقوى هذا الاستدلال رضى الأخرى بأن يُشَق الولد وقالت: نعم شقه، وهذا قول لا يصدر من أم، وإنما يصدر من حاسد يريد أن يتأسى بصاحب النعمة في زوالها عنه كما زالت عنه هو،
ولا أحسن من هذا الحكم وهذا الفهم، وإذا لم يكن مثل هذا في الحاكم أضاع حقوق الناس، وهذه الشريعة الكاملة طافحة بذلك. الرأي في العمل بالسياسة وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء بن عقيل وبين بعض الفقهاء، فقال ابنُ عقيل: العملُ بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسية ما كان من الأفعال بحيث يكون الناسُ معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسِّير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق عليَّ كرم الله وجهه الزنادقة في الأخاديد، ونَفْي عمر نَضْرَ بن حجاج. قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مُقامُ ضَنك في معترك صعب، فرَّط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيّعوا الحقوق، وجرَّدوا أهل الفجور على الفساد، وأعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من الطرق التي يُعرفَ بها المُحِقُّ من المبطل، وعطلوا مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصر في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى وُلاة الأمر ذلك، وإن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم؛ فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل، وفساد عريض، وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه. وأفرط فيه طائفة أخرى فسوَّغت منه ما يُناقض حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما
بعث الله به رسوله؛ فإن الله أرسل رُسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفرَ صبحه بأي طريق كان؛ فثم شرعُ الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها،
والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شِرعة وسبيل للدلالة عليها، وهل يظن بالسريعة الكاملة خلاف ذلك؟ السياسة العادلة جزء من أجزاء الشريعة ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع، فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة، وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم؛ فمن أطلق كلَّ متهم وخلَّى سبيله أو حلَّفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونَقْب الدور وتواتر السرقات -ـ ولا سيما مع وجود المسروق معه -ـ وقال: لا آخذه إلا بشاهدَيْ عدل أو إقرار اختيار وطَوْع، فقوله مخالف للسياسة الشرعية، وكذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه، ومنع المسيء على أمين سَلَب قتيله، وأخذه شَطرَ مال مانع الزكاة، وإضعافه الغرم على سارق ما لا قطع فيه، وعقوبته بالجلد، وإضعافه الغرم على كاتم الضالة، وتحريق عمر بن الخطاب حانوت الخمار، وتحريقه قرية يباع فيها الخمر، وتحريقه قَصْرَ سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن رعيته؛ وحلقه رأسَ نصر بن حجاج ونفيه، وضربه صبيغاً بالدرة لما تتبع المتشابِه فسأله عنه، إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فسارت سنة إلى يوم القيامة، وإن خالفها من خالفها. ولقد حد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الزنى بمجرد الحَبَل، وفي الخمر بالرائحة والقيء، وهذا هو الصواب، فإن دليل القيء والرائحة والحبل على الشرب والزِّنى أولى من البينة قطعاً؛ فكيف يظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين. ومن ذلك تحريق الصدِّيق اللوطيَّ، وإلقاء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه له من شاهق على رأسه. ومن ذلك تحريق
عثمان المصاحفَ المخالفة للمصحف الذي جمع الناس عليه، وهو الذي بلسان قريش. ومن ذلك تحريق الصديق الفجاءة السُّلمَي. ومن ذلك اختيار عمر رضي الله عنه أنه للناس إفراد الحج وأن يعتمروا في غير أشهر الحج، فلا يزال البيت الحرام معموراً بالحجاج والمعتمرين. ومن ذلك منع عمر رضي الله عنه الناس من بيع أمهات الأولاد، وقد باعوهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. ومن ذلك إلزامه بالطلاق لمن أوقعه بفم واحد عقوبة له كما صرح هو بذلك،
وإلا فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارته هو يجعل واحدة، إلى أضعاف ذلك من السياسات العادلة التي ساسوا بها الأمة، وهي مشقة من أصول الشريعة وقواعدها. تقسيم الدين إلى شريعة وسياسة أو إلى شريعة وحقيقة وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إلى العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحَدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَن يبغلهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلَّفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به. لم يتوف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وذكر من كل شيء علماً وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علماً وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول. والسفر والإقامة، والصَّمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي عين. وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه
ويشاهدونه بأوصاف كماله ونُعوت جلاله. وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جَرَى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، فعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله. وعرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره. وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده؛ اللهم إلا إلى مَنْ يبلغه إياه ويبيِّنه ويوضح منه ما خفي عليه.
وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه. وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافهم ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعْظم استقامة. جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمَّته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يُظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكملُ منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها؛ أو إلى قياس حقيقة أو معقول خارج عنها؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده؛ وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَّقَ الله له أصحابَ نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر رضي الله عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزَبد أفكارهم وزُبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فالله المستعان. وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ((29) العنكبوت: 51) وقال تعالى:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هؤلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (16) النحل: 89) وقال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ((10) يونس: 57) وكيف يَشفي ما في الصدور كتاب لا يفي وهو ما تبينه السنة بعُشر مِعشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أو عَامَّتها ظواهر لفظية دلالَتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يعلم انتفاؤها، سبحانك هذا بهتان عظيم. ويا لله العجب كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى الله بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟
أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له وما يمتنع عليه منهم؟ فوالله لأن يلقى الله عبدهُ بكل ذنب ما خلا الإشراك لخير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل. فصل من كلام الإمام أحمد في السياسة الشرعية وهذه نبذة يسيرة من كلام الإمام أحمد رحمه الله في السياسة الشرعية: قال في رواية المرْوزي وابن منصور: والمُحَنَّث ينفى؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، وإن خاف به عليهم حَبسَه. وقال في رواية حنبل، فيمن شرب خمراً في نهار رمضان، أو أتى شيئاً نحو هذا: أقيم الحد عليه، وغلظ عليه مثل الذي يقتل في الحرم دية وثلث. وقال في رواية حرب: إذا أتت المرأة المرأة تعاقبان وتؤدبان. وقال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق الوطي بالنار فله ذلك، لأن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه وَجدَ في بعض نواحي العرب رجلاً يُنكحُ كما تنكح المرأة، فاستشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وكان أشدَّهم قولاً، فقال: إن هذا الذنب لم تَعصِ الله به أمة من الأمم إلا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن يحرقوه بالنار؛ فأجمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقوه بالنار؛ فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما بأن يحرقوا؛ فحرقهم، ثم حرقهم ابن الزبير، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك. ونص الإمام أحمد رضي الله عنه فيمن طعن على الصحابة أنه وقد وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة. وصرح أصحابنا في أن النساء إذا خيف عليهم المساحقة حرم خلوة بعضهم ببعض. وصرحوا بأن من أسلم وتحته أختان فإنه يُجبر على اختيار إحداهما، فإن أبى
ضُرِب حتى يختار. قالوا: وهكذا كل من وجب عليه حق فامتنع من أدائه، فإنه يضرب حتى يؤديه. وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور. وأبعد الناس من الأخذ بذلك: الشافعي رحمه الله تعالى، مع أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع، وقد ذكرنا منها كثيراً في غير هذا الكتاب. منها جواز وطء الرجل المرأة ليلة الزفاف، وأن لم يرها ولم يشهد عدلان أنها امرأته، بناء على القرائن. ومنها قبول الهدية التي يوصلها إليه صبي أو عبد أو كافر، وجواز أكلها والتصرف فيها، وإن لم يشهد عدلان أن فلاناً أهدى لك كذا، بناء على القرائن، ولا يشترط تلفظ ولا تلفظ الرسول بلفظة الهبة والهدية. ومنها جواز تصرفه في بابه بقرْع حلقته ودقه عليه، وإن لم يستأذنه في ذلك. ومنها استدعاء المستأجر للدار والبستان لمن شاء من أصحابه وضيوفه وإنزالهم عنده مدة، وإن لم يستأذنه نطقاً، وإن تضمن ذلك تصرفهم في منفعة الدار وإشغالهم الكنيف وإضعافهم السلم ونحوه. ومنها جواز الإقدام على الطعام إذا وضعه بين يديه وإن لم يصرح له بالإذن لفظاً. ومنها جواز شربه من الإناء وإن لم يقدمه إليه ولا يستأذنه. ومنها جواز قضاء حاجته في كنيفه وإن لم يستأذنه. ومنها جواز الاستناد إلى وسادته. ومنها أخذ ما ينبذه رغبة عنه من الطعام وغيره، وإن لم يصرح بتمليكه له. ومنها انتفاعه بفراش زوجته ولحافها ووسادتها وآنيتها، وإن لم يستأذنها نُطقاً، إلى أضعاف أضعاف ذلك. وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب، وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة؟ وهذا باب واسع، وقد تقدم التنبيه عليه مراراً، ولا يستغني عنه المفتي والحاكم.
فصل رجوع إلى فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الأطعمة
فلنرجع إلى فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر طرف من فتاويه في الأطعمة.
585 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الثوم: أحَرَام هو؟ قال: «لا، ولكني أكرهه من أجل رائحته» .
586 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو أيوب: ألا يحل لنا البصل؟ فقال: «بلى، ولكني يغشاني ما لا يغشاكم» .
587 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الضَّبِّ، أحرام هو؟ فقال: «لا، ولكنْ لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» .
588 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكن عنه فهو مما عفا عنه» .
589 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: «أويأكل الضبعَ أحدٌ» ؟
590 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الذئب، فقال: «أويأكل الذئبَ أحد فيه خير» ؟.
591 - وعند ابن ماجة قال: قلت: يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال: «ومن يأكل الضبع» ؟ وإن صح حديث جابر في إباحة الضبع فإن في القلب منه شيئاً، كأن هذا الحديثَ يدل على ترك أكله تقذُّراً أو تنزهاً، والله أعلم.
592 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقالت: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكِرَ اسمُ الله عليه أم لا، فقال: «سموا أنتم وكلوا» .
593 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: أنأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى?ا أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }(الأنعام: 121) إلى آخر الآية، هكذا ذكره أبو داود، وأن الذي سأل هذا السؤال هم اليهود، والمشهور في هذه القصة أن المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال، وهو الصحيح، ويدل عليه كون السورة مكية، وكون اليهود يحرمون الميتة كما يحرمها المسلمون، فكيف يوردون هذا السؤال وهم يوافقون على هذا الحكم؟ ويدل عليه أيضاً قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى?ا أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } (الأنعام: 121) فهذا سؤال مجادل في ذلك، واليهود لم تكن تجادل في هذا. وقد رواه الترمذي بلفظ ظاهره أن بعض المسلمين سأل هذا السؤال، ولفظه: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أنأكل مما نقتل ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }(الأنعام: 118) إلى قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى?ا أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }(الأنعام: 121) وهذا لا يناقض كون المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال، فسأل عنه المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحسب قوله: إن اليهود سألوا عن ذلك إلا وَهماً من أحد الرواة، والله أعلم.
594 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرتُ للنساء، وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم، فأنزل الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُو?اْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى? أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } المائدة: 87 -ـ 88).
595 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخُشني رضي الله عنه، فقال: إن أرضنا أرضُ أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدوا غيرها فارُحضوها واطبخوا فيها واشربوا» قال: قلت يا رسول الله ما يحل لنا وما يحرم علينا؟ قال: «لا تأكلوا لحم الحُمُر الإنْسِيّة، ولا يحل كل ذي ناب من السباع» .
596 - وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: «أكل كل ذي ناب من السباع حرام» . وهذان اللفظان يبطلان قول من تأوله نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع بأنه نهيُ كراهةٍ، فإنه تأويل فاسد قطعاً، وبالله التوفيق.
عن الذكاة والصيد
597 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أما تكون الذكاة إلا في الحَلق واللَّبَّة؟ فقال: «لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك» ، ذكره أبو داود وقال: هذا ذكاة المتردِّي، وقال يزيد بن هارون: هذا للضرورة، وقيل: هو في غير المقدور عليه.
598 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الجَنين يكون في بطن الناقة أو البقرة أو الشاة أنلقيه أم نأكله؟ فقالت: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» ، وهذا يبطل تأويلَ من تأول الحديث أنه يُذَكَّى كما تذكَّى أمه ثم يؤكل؛ فإنه أمرهم بأكله، وأخبر أن ذكاة أمه ذكاة له. وهذا لأنه جزء من أجزائها، فلم يحتج إلى أن يُفْرَد بذَبح كسائر أجزائها.
599 - وسأله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج فقال: إنا لاقو العدو غداً، وليس معنا مدًى، أفنذكِّي باللِّيطة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهرَ الدمَ وذكر اسم الله عليه فكل، إلا ما كان من سنَ أو ظفر، فإن السن عَظم والظفر مُدَى الحبشة» . والليطة: الفلقة من القصب.
600 - وسأله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم رضي الله عنه، فقال: إن أحدنا ليصيبُ الصيدَ وليس معه سكين، أيَذبح بالمَرْوة وشقة العصا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمِرِ الدمَ، واذكر اسمَ الله» .
601 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة حلَّ بها الموت، فأخذت جارية حجراً فذبحتها به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها.
602 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن شاة نَيَّبَ فيها الذئب، فذبحوها بمرْوة، فرخصَ لهم في أكلها.
603 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أكل الحوت الذي جَزَر البحر عنه، فقال: «كلوا رزقاً أخرجه الله لكم، وأطعمونا إن كان معكم» .
604 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخُشني، فقال. إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي المعلَّم، وبكلبي الذي ليس بمعلَّم، فما يصلح لي؟ فقال: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدْتَ بكلبك المعلَّم، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلَّم فأدركت ذكاته فكل» . وهو صريح في اشتراط التسمية لحل الصيد، ودلالته على ذلك أصرح من دلالته على تحريم صيد غير المعلم.
605 - وسأله صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم، فقال: إني أرسل كلابي المعلَّمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم الله، فقال: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك» قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها» ، قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيدَ فأصيب، فقال: «إذا رَميتَ بالمعراض، فخزق فكلْه، وإن أصابه بعرْضِه فلا تأكله» .
606 - وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: «إلا أن يأكل المكلَّب، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره» .
607 - وفي بعض ألفاظه: «إذا أرسلت كلبك المكلَّب فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك، فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذَ الكلب ذكاته» .
608 - وفي بعض ألفاظه: «إذا رميت بسهمك، فاذكر اسمَ الله» . وفيه: «فإن غاب عنك اليومين أو الثلاثة ولم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، فإن وجدته غريقاً في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمُك» .
609 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة الخُشني فقال: يا رسول الله إن لي كلاباً مكلَّبة فأفتني في صيدها، فقال: «إن كانت لك كلابٌ مكلَّبة، فكل مما أمسكت عليك» ، فقال: يا رسول الله: ذَكيٌّ أو غير ذكيٌّ؟ قال: «ذكيُّ وغير ذكيَ» ، قال: وإن أكل منه؟ قال: «وإن أكل منه» . قال: يا رسول الله أفتني في قوسي، قال: «كل ما أمسكت عليك قوسك» ، قال: ذكيٌّ وغير ذكيَ؟ قال: «ذكيٌّ وغير ذكي» ، قال: وإن تغيَّب عني؟ قال: «وإن تغيب عنك ما لم يَصِلَّ» ، يعني يتغير، «أو تجد فيه أثراً غير أثر سهمك» . ولا يناقض هذا قوله لعدي بن حاتم: «وإن أكل منه فلا تأكل» ، فإن حديث عديَ فيما أكل منه حال صيده؛ إذ يكون ممسكاً على نفسه، وحديث أبي ثعلبة فيما أكل منه بعد ذلك، فإنه يكون قد أمسك على صاحبه ثم أكل منه بعد ذلك، وهذا لا يحرم كما لو أكل مما ذكاه صاحبه.
610 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الذي يدرك صيده بعد ثلاث، فقال: «كلْهُ ما لم يَنْتُنن» .
611 - وسأله صلى الله عليه وسلم أهلُ بيت كانوا في الحَرَّة محتاجين ماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم، فرخص لهم في أكلها، فعصمتهم بقية شتائهم.
612 - وعند أبي داود أن رجلاً نزل بالحرَّة،، ومعه أهله وولده، فقال له رجل: إن لي ناقة قد ضلت؛ فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها، فلم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نُقدِّدَ شحمها، ولحمها نأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال له: «هل عندك ما يغنيك» ؟ فقال: لا، قال: «فكلوه» ، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلاَّ كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك. وفيه دليل على جواز إمساك الميتة للمضطر.
613 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: من الطعام طعام نتحرَّجُ منه، فقال: «لا يختلجنَّ في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية» . ومعناه والله أعلم النهيُ عما شابه طعامَ النصارى، يقول: لا تشكنَّ فيه، بل دعه، فأجابه بجواب عام، وخص النصارى دون اليهود، لأن النصارى لا يحرمون شيئاً من الأطعمة، بل يبيحون ما دبَّ ودرَج من الفيل إلى البعوض.
614 - وسأله صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر فقال: إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يَقْرُوننا، فما ترى؟ فقال: «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» .
615 - وعند الترمذي: إنا نمر بقوم فلا يضيفوننا، ولا يؤدون ما لنا عليهم من الحق، ولا نحن نأخذ منهم، فقال: «إن أبوا إلا أن تأخذوا قِرًى فخذوه» .
616 - وعند أبي داود: «ليلة الضيف حق على كل مسلم. فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه، إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه» .
617 - وعنده أيضاً: «من نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» .
618 - وهو دليل على وجوب الضيافة، وعلى أخذ الإِنسان نظير حقه ممن هو عليه إذا أبى دَفعه. وقد استدل به في مسألة الظفر، ولا دليل فيه، لظهور سبب ألحق ها هنا، فلا يتهم الآخذ كما تقدم في قصة هند مع أبي سفيان.
619 - وسأله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فقال: الرجل أمرُّ به فلا يَقريني ولا يضيفني، ثم يمر بي أفأجزيه؟ قال: «لا. بل اقْره» ، قال: ورآني -ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم -ـ رثَّ الثياب، فقال: «هل لك من مال؟» قال: قلت: من كلِّ المال قد أعطاني الله من الإِبل والغنم، قال: «فليُرَ عليك» .
620 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن جائزة الضيف، فقال: «يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يَثوى عنده حتى حُرجه» .
فصل عن العقيقة
621-ـ وسئل صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، وكان كره الاسم، وقال: «من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل» .
622 - وعنده أيضاً أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال: «لا يحب الله العقوق» ، كأنه كره الاسم، قالوا: يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولدُ له ولد، قال: «من يولد له ولد فأحب أن يَنسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتين متكافئتين، وعن الجارية شاة» .
فصل عن الأشربة
623 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: لا أرْوَى من نفس واحدة، قال: «فأبنِ القدح عن فيك، ثم تنفس» ، قال: أرى القذاة فيه، قال: «فأهرقها» . وعند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخِ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإِناء، قال: «أهرقها» ، قال: إني لا أرْوَى من نَفس واحدة، قال: «فابن القدَح إذنْ عن فيك» . حديث صحيح.
624 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن البِتْعِ، فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .
625 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو موسى، فقال: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البِتعُ وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمِزْر وهو من الذرة والشعير يَنْبِذُ حتى يشتد؟ فقال: «كل مسكر حرام» .
626 - وسأله صلى الله عليه وسلم طارق بن سعيد عن الخمر، فنهاه أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» .
627 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل من اليمن عن شراب بأرضهم، يقال له: المِزْر، قال: «أمسكر هو» ؟ قال: نعم،، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وإن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: «عرقُ أهل النار» ، أو قال: «عصارة أهل النار» .
628 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل من عبد قيس، فقال: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه في أرضنا من ثمارنا؟ فأعرض عنه، حتى سأله ثلاث مرات، حتى قام يصلي، فلما قضى صلاته قال: «لا تشربه، ولا تسْقه أخاك المسلم، فوالذي نفسي بيده، أو والذي يُحلف به، لا يشربه رجل ابتغاء لذةِ سُكْرٍ، فيسقيه الله الخمر يوم القيامة» .
629 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خَلاًّ؟ قال: «لا» .
630 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو طَلْحة عن أيتامٍ ورِثوا خمراً، فقال: «أهْرقْها» ، قال: أفلا نجعلها خَلاًّ؟ قال: «لا» .
631 - وفي لفظ: أن يتيماً كان في حِجْر أبي طَلْحة، فاشترى له خمراً، فلما حرِّمَتِ الخمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيتخذها خَلاًّ؟ قال: «لا» .
632 - وسأله صلى الله عليه وسلم قوم، فقالوا: إنا نَنْتَبِذَ نبيذاً نشربه على غَدائنا وعَشائنا، وفي رواية: على طعامنا، فقال: «اشْرَبوا واجتنبوا كلَّ مسكرٍ» ، فأعادوا عليه، فقال: «إن الله ينهاكم عن قليل ما أسكرَ وكثيرِه» .
633 - وسأله صلى الله عليه وسلم عبدُ الله بن فيرُوز الدَّيلمي رضي الله عنهما، فقال: إنا أصحابُ أعنابٍ وكَرْم، وقد نزل تحريمُ الخمر، فما نصنع بهذا؟ قال: «تتخذونه زبيباً» ، قال: نصنع بالزبيب ماذا؟ قال: «تنقعونه على غدائكم، وتشربونه على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم، وتشربونه على غدائكم» ، قال: قلت: يا رسول الله نحن ممَّن قد علمت، ونحن بين ظَهْرَانيْ من قد علمت، فمن ولينا؟ فقال: «الله ورسوله» ، قال: حَسْبي يا رسول الله.
فصل في طرف من فتاويه صلى الله عليه وسلم في الأيمان والنذور
634 - وسأله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله إني حلفْتُ باللاَّتِ والعزَّى وإن العهد كان قريباً، فقال: «قل لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، ثلاثاً، ثم انفثْ عن يسارك ثلاثاً، ثم تعوَّذ، ولا تعُد» .
635 - ولما قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حقَّ امرىء مسلم بيمينه حرَّم الله عليه الجنة وأوجب له النار» ، سألوه صلى الله عليه وسلم: وإنْ كان شيئاً يسيراً؟ قال: «وإن كان قضيباً من أراك» .
636 - وأعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجد الصِّبية قد ناموا، فأتاه أهله بطعام، فحلف: لا يأكل، من أجل صبية، ثم بدا له فأكل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتِها وليُكفِّر عن يمينه» .
637 - وسأله صلى الله عليه وسلم مالك بن فضالة فقال: يا رسول الله أرأيت ابن عم لي آتيه أسأله، فلا يعطيني ولا يصلني، ثم يحتاج إليَّ فيأتيني فيسألني، وقد حلفت ألاَّ أعطيه ولا أصله؟ قال: فأمرني أن آتي الذي هو خير، وأكفِّر عن يميني.
638 - وخرج سُويْدُ بن حَنْظلة ووائلُ بن حُجر يريدان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع قومهما، فأخذ وائلاً عَدُوٌّ له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا أنه أخوهم، وحلف سويد أنه أخوه، فخلوا سبيله، فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: «أنت أبرُّهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» .
639 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل نذر: أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ويصوم ولا يفطر بنهاره، ولا يستظل، ولا يتكلم، فقال: «مُرُوهُ، فليستظلَّ وليتكلم وليقعد وليتم صومه» . وفي دليل على تفريق الصفقة في النذر، وأن من نذر قربة صح النذر في القربة، وبطل في غير القربة، وهكذا الحكم في الوقف سواء.
640 - وسأله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه، فقال: إني نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام: فقال: «أوفِ بنذرك» . وقد احتج به من يرى جواز الاعتكاف من غير صوم، ولا حجة فيه، لأن في بعض ألفاظ الحديث: أن أعتكف يوماً أو ليلة، ولم يأمره بالصوم؛ إذ الاعتكاف المشروع إنما هو اعتكاف الصائم، فيحمل اللفظ المطلق على المشروع.
641 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مُختمرةٍ، فأمرها أن تركب وتختمر، وتصوم ثلاثة أيام..
642 - وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال: نذرَت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: فاستفتيته، فقال: «لِتَمشِ ولتركب» .
643 - وعند الإِمام أحمد أن أخت عُقْبة نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تُطيقَ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لغنيٌّ عن مشي أختك، فلتركب ولْتهدِ بدنة» .
644 - ونظر وهو يخطب إلى أعرابي قائم في الشمس، فقال: ما شأنك؟ قال: نذرت أن لا أزال في الشمس، حتى يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هذا نذراً، إنما النذر فيما ابتُغي به وجه الله» .
645 - ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً يهادَى بين ابنيه، فقال: «ما بال هذا؟» فقالوا: نذَر أن يمشي، فقال: «إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب» .
646 - ونظر إلى رجلين مقترنين يمشيان إلى البيت، فقال: ما بال القِرَان؟ قالوا: يا رسول الله نذرْنا أن نمشي إلى البيت مقترنين، فقال: «ليس هذا نذراً، إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله» .
هل تجوز النيابة في عمل الطاعات؟
647 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن أمي توفيت وعليها نذر صيام فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال: «ليصُم عنها الولي» .
648 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» . فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يصام عنه النذر والفرض. وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يُصام عنه نذر ولا فرض. وفصلت طائفة قالت: يُصام عنه النذر، دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جارٍ مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يُسلِمُ أحد عن أحد فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذِّمة بمنزلة الدَّين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دَينه، وهذا محض الفقه. وطرْدُ هذا أنه لا يحج عنه ولا يزكى عنه إلا إذا كان معذوراً بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر. فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحاناً دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات، والله أعلم.
649 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إني نَذْرْتُ أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: «أوْفِي بنذرك» قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان يَذْبَح فيه أهل الجاهلية، قال: «لصنم» ؟ قالت: لا، قال: «لوثن؟» قالت: لا، قال: «أوْفي بنذرك» .
650 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببُوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قالوا: لا، قال: «أوْفِ بنذرك، فإنه لا وفاء بالنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» .
فصل في طرف من فتاويه صلى الله عليه وسلم في الجهاد
651 - سئل صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء الظلمة، فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة،» وقال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم، وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم،» قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة،» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألاَ مَنْ ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يَداً من طاعته» .
652 - وقال صلى الله عليه وسلم: «يُستعمل عليكم أمراء؛ فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن مَنْ رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» ، وزاد أحمد: «ما صلوا الخمس» .
653 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألوننا حقهم؟ قال: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُمّلتم» .
654 - وقال صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بَعْدي أثَرة وأمور تنكرونها،» قالوا: فما تأمرنا من أدرك ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» .
655 - وسألهصلى الله عليه وسلم رجل فقال: دلني على عمل يعَدل الجهاد، قال: «لا أجدهُ» ثم قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟» قال: ومَنْ يستطيع ذلك؟ فقال: «مَثلُ المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» .
656 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله» قال: ثم مَنْ؟ قال: «رجل في شِعْبٍ من الشعاب يتقي الله ويَدَعُ الناس من شره» .
657 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، وأنا صابر محتسب مقبل غير مُدْبر يكفر الله عني خطاياي؟ قال: «نعم» ثم قال: كيف قلت؟ فرد عليه كما قال، فقال: «نعم» ، فكيف قلت؟ فرد عليه القول أيضاً، فقال: أرأيت يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ قال: «نعم، إلا الدَّيْنَ، فإن جبريل سَارَّني بذلك» .
658 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما بال المؤمنين يُفْتنُون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» .
659 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الشُّهَداء أفضل عند الله تعالى؟ قال: «الذين يلقون في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك ينطلقون في الغرف العُلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك تعالى، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا، فلا حساب عليه» . 660 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقتل رياء. أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» .
661 - وعند أبي داود أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليُحْمدَ، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليَرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل: لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» . 661 م -ـ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، الرجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عَرضاً من أعراض الدنيا، فقال: «لا أجر له» ، فأعظمَ ذلك الناس وقالوا للرجل: عُدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لم تفْهمه، فقال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من عرض الدنيا، فقال: «لا أجر له» ، فقالوا للرجل: عد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الثالثة، فقال: «لا أجر له» .
662 - وعند النسائي أنه سئل صلى الله عليه وسلم: أرأيت رجلاً غزا يَلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له» ، فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له» ثم ، قال: «إن الله تعالى لا يَقبلُ من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه» .
663 - وسألته صلى الله عليه وسلم أم سلمة، فقالت: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً }( النساء: 32).
664 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الشهداء، فقال: «مَنْ قُتل في سبيل الله فهو شهيد؛ ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد» .
فصل في ذكر طرف من فتاويه صلى الله عليه وسلم في الطب
665 - سأله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: «نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، عَلمه مَنْ علمه، وجَهله من جهله» .
666 - وفي السنن أن الأعراب قالوا: يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: «نعم، عباد الله تَداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء؛ أو دواء، إلا داء واحداً» قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: «الهَرَم» .
667 - وسئل صلى الله عليه وسلم فقيل له: أرأيت رُقَى نَسْترقيها؛ ودواءً نتداوى به، وتقاةً نتقيها؛ هل تردُّ من قدر الله شيئاً؟ قال: «هي من قدَر الله» .
668 - وسئل صلى الله عليه وسلم: هل يغني الدواء شيئاً؟ فقال: «سبحان الله، وهل أنزل الله تبارك وتعالى من داء في الأرض إلا جَعل له شفاء» ؟.
669 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمته، فقال: «هم الذين لا يَسترْقون، ولا يتطيرون، ولا يَكتوون، وعلى ربهم يتوكلون» .
670 - وسأله صلى الله عليه وسلم آلُ عمرو بن حَزْم، فقالوا: إنه كانت عندنا رُقْية نَرْقِي بها من العقرب، وإنكَ نهيتَ عن الرُّقى، قال: «اعرضوا عليَّ رُقاكم» قال: فعرضوا عليه، فقال: «ما أرى بأساً، من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» .
671 - واستفتاه عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وشكا إليه وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال: «ضع يدكَ على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله، ثلاثاً،، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجِدُ وأُحاذر» .
672 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، الرجل يُبتلى على حسب دينه، فإن كان رقيقَ الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صَلبَ الدين ابتلي على حسب ذلك؛ فما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على وجه الأرض، وما عليه» .
673 - وذكر ابن ماجة أنه سئل: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء» قلت: يا رسول الله: ثم من؟ قال: «ثم الصالحون؛ إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العبادة تحويه؛ وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالعافية» .
674 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: «كفارات» قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وإن قلَّت؟ قال: «وإن شوكة فما فوقها» ، فدعا أبو سعيد على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عن عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حَرَّه حتى مات..
675 - وقال أسامة رضي الله عنه: شهدتُ الأعراب يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: أعلينا حرج في كذا؟ أعلينا حَرَجٌ في كذا؟ فقال: «عبادَ الله، وضع الله الحرج إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً، فذلك هو الحرج» ، فقالوا: يا رسول الله هل علينا من جُناح أن نتداوى؟ قال: «تَداووْا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهَرَم» ، قالوا: يا رسول الله، ما خير ما أُعطي العبد؟ قال: «حسن الخلق» .
676 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى، فقال: «اعرضوا عليَّ من رُقاكم» ، ثم قال: «لا بأس بما ليس فيه شرك» .
677 - وسأله صلى الله عليه وسلم طبيب عن ضِفدعٍ يجعلها في دواء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.
678 - وشكا إليه صلى الله عليه وسلم الزبيرُ بن العوام وعبد الرحمن بن عَوف القمْل، «فأفتاهم بلبس قميص الحرير» .
لا ضمان على الطبيب في الخطأ
679 - وأفتى صلى الله عليه وسلم أن من تطبَّب، ولم يعرف منه طب، فهو ضامن، وهو يدل بمفهومه على أنه إذا كان طبيباً، وأخطأ في تطبيبه، فلا ضمان عليه.
عود إلى فتاوى الطب
680-ـ وشكا إليه صلى الله عليه وسلم المشاة في طريق الحج تعبهم وضعفهم عن المشي، فقال لهم: «استعينوا بالنسل، فإنه يقطع عنكم الأرض وتخفون له» ، قالوا: ففعلنا، فخففنا له، والنَّسْل: العَدْوُ مع تقارب الخُطا، ذكر ابن مسعود الدمشقي أن هذا الحديث في مسلم، وليس فيه، وإنما هو زيادة في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده حسن.
681 - وسألته صلى الله عليه وسلم أسماءُ بنت عُميس رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله، إن ولد جعفر تُسْرع إليهم العين، أفأستَرْقي لهم؟ قال: «نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» .
682 - وعند مالك عن حميد بن قيس المكي قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب، فقال لحاضنتهما: «ما لي أراهما ضارعَين» ؟ فقالت: إنه لتسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك، فقال: «استرْقوا لهما، فإنه لو سبق شيء القدَر لسبقته العين» .
683 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن النُّشرَة، فقال: «هي من عمل الشيطان» . والنشرة: حَل السحر عن المسحور. وهي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النُّشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز، بل مستحب، وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: لا يحِلُّ السحرَ إلا ساحر.
فصل فتاوى في الطيرة والفأل
684 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال: «عذاباً كان يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمين، ما من عبد يكون في بلد ويكون فيه، فيمكث لا يخرج صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد» .
685 - وسأله صلى الله عليه وسلم فرْوة بن مُسَيْك رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله إنا بأرض يقال لها إبْين، وهي ريفنا وميرتُنا، وهي وَبيَّة أو قال: وَباها شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعْها عنك، فإن من القرَف التلف» . وفيه دليل على نوع شريف من أنواع الطب، وهو استصلاح التربة والهواء كما ينبغي استصلاح الماء والغذاء، فإن بصلاح هذه الأربعة يكون صلاح البدن واعتداله.
686 - وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرَةَ، وخيرها الفأل» قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» .
687 - وفي لفظ لهما: «لا عَدْوى ولا طِيَرَة، ويعجبني الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «كلمة طيبة» .
688 - ولما قال صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طِيرةَ ولا هامة» . قال رجل: أرأيت البعير يكون به الجرَبُ، فتجرب الإِبل؟ قال: «ذاك القدَر، فمن أجْرَبَ الأول» ؟. ولا حجة في هذا لمن أنكر الأسباب، بل فيه إثبات القدَر، وردُّ الأسباب كلها إلى الفاعل الأول، إذ لو كان كل سبب مستنداً إلى سبب قبله، لا إلى غاية لزم التسلسل في الأسباب، وهو ممتنع، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم التسلسل بقوله: فمن أعدى الأول، إذ لو كان الأول قد جرب العدوى والذي قبله كذلك، لا إلى غاية لزم التسلسل الممتنع.
689 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأةٌ، فقالت: يا رسول الله، دار سكَّناها والعدد كثير، والمال وافر، فقلَّ العدد وذهب المال، فقال: «دَعُوها ذميمة» .
690 - وهذا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة: في الفرَس، وفي الدار، والمرأة» وهو إثباتٌ لنوع خفي من الأسباب، ولا يطلع عليه أكثر الناس، ولا يعلم إلا بعد وقوع مسببه، فإن من الأسباب ما يعلم سببيته قبل وقوع مسببه، وهي الأسباب الظاهرة، ومنها ما لا يعلم سببيته إلا بعد وقوع مسببه وهي الأسباب الخفية، ومنه قول الناس: فلان مشؤوم الطلعة، ومدور الكعب، ونحوه فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا النوع ولم يبطله، وقوله: «إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة» ، تحقيق لحصول الشؤم فيها وليس نفياً لحصوله من غيرها، كقوله: «إن كان في شيء تتداوون به شفاء، ففي شرْطة مِحجَم، أو شَرْبة عسل، أو لذعَة بنار، ولا أَحب الكيَّ» .
691 - وقال صلى الله عليه وسلم: «من ردَّته الطِّيَرَةُ من حاجته فقد أشرَك» ، قالوا: يا رسول الله وما كفارة ذلك؟ قال: «أن يقول: اللهم لا طيرَ إلا طيركُ، ولا خير إلا خيرك» .
ذكر فصول من فتاويه صلى الله عليه وسلم في أبواب متفرقة
692 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إني أصبتُ ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: لا، قال: «فهل لك من خالة» ؟ قال: نعم. قال: «فبرَّها» .
693 - وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتدَّ ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل له من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُو?اْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( آل عمران: 86) إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( آل عمران: 89) فأرسل إليه فأسلم.
694 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن رجل أوجبَ فقال: «أعتقوا عنه» . وقوله: «أوجب» ، أي: فعلَ ما يستوجب النار.
695 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ( العنكبوت: 29) قال: «كانوا يَحْذِفون أهل الطريق، ويسخرون منهم، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» .
696 - وسئل صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: «نعم» ، قالوا: أيكون بخيلاً: قال: «نعم» ، قالوا: أيكون كذاباً؟ قال: «لا» .
697 - وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة، فقالت: إن لي ضَرَّة، فهل عليَّ جناحٌ إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال: «المتشبع بما لم يُعطَ كلابسِ ثوبَيْ زورٍ» . وفي لفظ: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني.
698 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: هل أكذب على امرأتي؟ قال: «لا خير في الكذب» ، فقال: يا رسول الله أعِدُها، وأقول لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا جناح» ..
699 - وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا هذا الشِّرْك، فإنه أخفى من دَبيب النمل» ، فقيل له: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ فقال: قولوا: «اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم» .
700 - وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر» ، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُرَاؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» .
701 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الأخسرين أعمالاً يوم القيامة، فقال: «هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا إلى من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم» .
702 - ولما نزلت: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُو?اْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }(الانعام -ـ 82) شقَّ ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه:» {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }((31) لقمان: 13).
703 - وخرج عليهم وهم يتذاكرون المسيحَ الدجال، فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال» ؟ قالوا: بلى، قال: «الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزيِّن صلاته لما يرى من نظر رجل» .
704 - وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة الأمير الذي أمر أصحابه فجمعوا حطباً فأضرموه ناراً وأمرهم بالدخول فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف» .
705 - وفي لفظ: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق» .
706 - وفي لفظ: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه» . فهذه فتوى عامة لكل من أمره أمير بمعصية الله كائناً من كان، ولا تخصيص فيها الْبتَّة.
707 - ولما قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه» ، سألوه: كيف يشتم الرجل والديه؟ قال: «يسبُّ أبا الرجل وأمه، فيسب أباه وأمه» .
708 - وللإِمام أحمد: «إن أكبر الكبائر عقوقُ الوالدين» . قيل: وما عقوق الوالدين؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يسب أبا الرجل وأمه، فيسب أباه وأمه» . وهو صريح في اعتبار الذرائع، وطلب الشرع لسدها، وقد تقدمت شواهد هذه القاعدة بما فيه كفاية.
709 - وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في الزنا» ؟ قالوا: حرام، فقال: «لأن يَزنيَ الرجل بعشر نِسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره، ما تقولون في السرقة» ؟ قالوا: حرام. قال: «لأن يسرقَ الرجل من عشرة أبيات أيسرُ من أن يسرق من بيت جاره» .
710 - وقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» ، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهتَّه» .
711 - وللإِمام أحمد ومالك أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الغيبة؟ فقال: «أن تذْكُر من المرء ما يكره أن يسمع» ، فقال: يا رسول الله وإن كان حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت باطلاً فذلك البهتان» .
712 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: «الإِشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وقتل النفس التي حرم الله، والفرار يوم الزَّحف، ويمين الغَمُوس، وقتل الإِنسان ولده خشية أن يطعم معه، والزنا بحليلة جاره، والسحر، وأكل مال اليتيم، وقذُف المحصنات» وهذا مجموع من أحاديث. ومن الكبائر: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وترك الحج مع الاستطاعة والإِفطار في رمضان بغير عذر، وشرب الخمر، والسرقة، والزنا، واللواط، والحكم بخلاف الحق، وأخذ الرِّشا على الأحكام، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، والقول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وجحود ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، واعتقاد أن كلامه وكلام رسوله لا يستفاد منه يقين أصلاً، وأن ظاهر كلامه وكلام رسوله باطل وخطأ بل كفر وتشبيه وضلال، وترك ما جاء به لمجرد قول غيره، وتقديم الخيال المسمى بالعقل والسياسة الظالمة والعقائد الباطلة والآراء الفاسدة والأذوقات والكشوفات الشيطانية على ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ووضع المكوس، وظلم الرعايا، والاستئثار بالفيء، والكبر، والفخر، والعُجب، والخيلاء، والرياء والسمعة، وتقديم خوف الخلق على خوف الخالق، ومحبته على محبة الخالق، ورجائه على رجائه، وإرادة العلو في الأرض والفساد وإن لم ينل ذلك، ومسبَّة الصحابة رضوان الله عليهم، وقطع الطريق، وإقرار الرجل الفاحشة في أهله وهو يعلم، والمشي بالنميمة، وترك التنزه من البول، وتخنث الرجل، وترجُّل المرأة، ووصل شعر المرأة وطلبها ذلك، وطلب الوصل كبيرة، وفعله كبيرة، والوشم والاستيشام، والوشر والاستيشار، والنمص والتنميص والطعن في النسب، وبراءة الرجل من أبيه وبراءة الأب من ابنه، وإدخال المرأة على زوجها ولداً من غيره، والنياحة، ولطم الخدود، وشق الثياب، وحلق المرأة شعرها عند المصيبة بالموت وغيره، وتغيير منار الأرض وهو أعلامها، وقطيعة الرحم، والجور في الوصية، وحرمان
الوارث حقه من الميراث، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزيز، والتحليل واستحلال المطلقة به، والتحيُّل على إسقاط ما أوجب الله، وتحليل ما حرم الله، وهو إستباحة محارمه وإسقاط فرائضه بالحيل، وبيع الحرائر، وإباق المملوك من سيده، ونشوز المرأة على زوجها، وكتمان العلم عند الحاجة إلى إظهاره، وتعلم العلم للدنيا والمباهاة والجاه والعلو على الناس، والغدر، والفجور في الخصام، وإتيان المرأة في دُبُرها وفي محيضها، والمن بالصدقة وغيرها من عمل الخير،
وإساءة الظن بالله، واتهامه في أحكامه الكونية والدينية، والتكذيب بقضائه وقدره واستوائه على عرشه، وأنه القاهر فوق عباده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرج به إليه، وأنه رفع المسيح إليه، وأنه يصعد إليه الكِلمُ الطِّيب، وأنه كتب كتاباً فهو عنده على عرشه، وأن رحمته تغلب غضبه، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شَطرُ الليل فيقول: من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه كلم موسى تكليماً، وأنه تَجلى للجبَل فجعله دَكا، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه نادى آدم وحَواء، ونادى موسى وينادي نبينا يوم القيامة، وأنه خلق آدم بيديه، وأنه يقبض سماواتِهِ بِإحدى يديه والأرض باليد الأخرى يوم القيامة. ومنها الاستماعُ إلى حديث قوم لا يحبون استماعه، وتخبيثُ المرأة على زوجها، والعبد على سيده، وتصوير صور الحيوان سواء كان لها ظل أم لم يكن، وأن يُرِيَ عينيه في المنام ما لم ترياه، وأخذ الربا وإعطاؤه والشهادة عليه وكتابته، وشرب الخمر وعَصرها واعتصارها وحَملها وبيعها وأكل ثمنها، ولعن من لم يستحق اللعن، وإتيان الكهنة والمنجمين والعرَّافين والسَّحَرة وتصديقهم والعمل بأقوالهم، والسجود لغير الله، والحلف بغيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: 712 م -ـ «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» . وقد قصَّر ما شاء أن يقصَّر من قال: إن ذلك مكروه، وصاحب الشرع يجعله شركاً، فرتبته فوق رتبة الكبائر.
بدع المشركين عند القبور
واتخاذُ القبور مساجد، وجعلها أوثاناً وأعياداً يسجدون لها تارة، ويصلون إليها تارة، ويطوفون بها تارة، ويعتقدون أن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في بيوت الله التي شرع أن يدعى فيها ويعبد ويصلى له ويسجد. عود إلى الكبائر ومنها: معاداة أولياء الله، وإسبال الثياب من الإِزار والسراويل والعمامة وغيرها، والتبختر في المشي، واتباع الهوى وطاعة الهوى وطاعة الشح والإِعجاب بالنفس، وإضاعة من تلزمه مؤنته ونفقته من أقاربه وزوجته ورقيقه ومماليكه، والذبح لغير الله، وهَجْر أخيه المسلم سَنةً كما في صحيح الحاكم من حديث أي خراش الهذلي السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
713 - «من هجر أخاه سنة فهو كقتله» . وأما هجره فوق ثلاثة أيام فيحتمل أنه من الكبائر، ويحتمل أنه دونها، والله أعلم. ومنها: الشفاعة في إسقاط حدود الله.
714 - وفي الحديث عن ابن عمر يرفعه: «مَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضادَّ الله في أمره» . رواه أحمد وغيره بإسناد جيد. ومنها: تكلم الرجل بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً. ومنها: أن يدعو إلى بدعة أو ضلالة أو ترك سنة. بل هذا من أكبر الكبائر، وهو مضادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
715 - ومنها: ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث المُستورد بن شدَّاد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل بمسلم أكلةً أطعمه الله بها أكلة من نار جهنم يوم القيامة، ومن قام بمسلم مقام سُمعة أقامه الله يوم القيامة مقام رياء وسمعة، ومن اكتسى بمسلم ثوباً كساه الله ثوباً من نار يوم القيامة». ومعنى الحديث أنه توصل إلى ذلك، وتوسل إليه بأذى أخيه المسلم من كذب عليه أو سُخرية أو همزة أو لمزَة أو غيبة، والطعن عليه، والازدراء به والشهادة عليه بالزور، والنيل من عرضه عند عدوه، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، وأوقع في وسطه والله المستعان. ومنها: التبجح والافتخار بالمعصية بين أصحابه وأشكاله، وهو الإِجهار الذي لا يعافي الله صاحبه، وإن عافاه من شر نفسه. ومنها: أن يكون له وجهان ولسانان، فيأتي القومَ بوجه ولسان، ويأتي غيرهم بوجه ولسان آخر. ومنها: أن يكون فاحشاً بذيًّا يتركه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه. ومنها: مخاصمة الرجل في باطل يعلم أنه باطل، ودعواه ما ليس له وهو يعلم أنه ليس له. ومنها أن يدعي أنه من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منهم، أو يدعي أنه ابن فلان وليس بابنه.
716 - وفي الصحيحين: «من ادَّعى إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام» . وفيهما أيضاً: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كافر».
717 - وفيهما أيضاً: «ليس من رجل ادَّعَى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا وقد كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه». فمن الكبائر:
718 - تكفير من لم يكفره الله ورسوله، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتال الخوارج.
719 - وأخبر أنهم شَر قتْلَى أديم السماء، وأنهم يمرُقون من الإِسلام كما يَمرقُ السهم من الرَّمِية، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب، فكيف من كفرهم بالسنة، ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها؟ ومنها: أن يُحدِث حَدثاً في الإِسلام، أو يؤوي محدثاً وينصره ويعينه.
720 - وفي الصحيحين: « مَنْ أحدثَ حَدَثاً أو آوى مُحْدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً» . ومن أعظم الحدث: تعطيلُ كتاب الله وسنة رسوله، وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذَّب عنه ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومنها: إحلال شعائر الله في الحرم والإِحرام، كقتل الصيد واستحلال القتال في حرم الله. ومنها: لبس الحرير والذهب للرجال، واستعمال أواني الذهب والفضة للرجال.
721 - وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطِّيَرةُ شرك» فيحتمل أن يكون من الكبائر وأن يكون دونها. ومنها: الغُلول من الغنيمة، ومنها: غش الإِمام والوالي لرعيته، ومنها أن يتزوج ذات رَحِمْ مَحْرَم منه، أو يقع على بهيمة، ومنها: المكر بأخيه المسلم ومخادعته ومضارته.
722 - وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ملعون من مَكر بمسلم أو ضارَّ به» . ومنها: الاستهانة بالمصحف وإهدار حرمته، كما يفعله مَنْ لا يعتقد أن فيه كلام الله مِنْ وطئه برجله، ونحو ذلك. ومنها: أن يضل أعمى عن الطريق، وقد لعن صلى الله عليه وسلم مَن فعل ذلك، فكيف بمن أضلَّ عن طريق الله أو صراطه المستقيم. ومنها: أن يَسِمَ إنساناً أو دابة في وجهها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك. ومنها: أن يحمل السلاح على أخيه المسلم، فإن الملائكة تلعنه. ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله تعالى {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ( الصف: 3) ومنها: الجدال في كتاب الله ودينه بغير علم.
723 - ومنها: إساءة الملكة برقيقه، وفي الحديث: «لا يدخل الجنة سَييِّء الملكة». ومنها: أن يمنع المحتاج فضل ما لا يحتاج إليه مما لم تعمل يَداه. ومنها: القمار، وأما اللعب بالنرد فهو من الكبائر، لتشبيه لاعبه بمن صَبغَ يده في لحم الخنزير ودمه، ولا سيما إذا أكل المال به، فحينئذ يتم التشبيه به، فإن اللعب بمنزلة غَمس اليد، وأكل المال بمنزلة أكل لحم الخنزير، ومنها ترك الصلاة في الجماعة؛ وهو من الكبائر.
724 - وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريق المتخلفين عنها، ولم يكن ليحرق مرتكب صغيره.
725 - وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، وهذا فوق الكبيرة.
726 - ومنها: ترك الجمعة، وفي صحيح مسلم: «لينتهينَّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات أو ليختمَنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين».
727 - وفي السنن بإسناد جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ترك ثلاثَ جمع تهاوُناً طَبعَ الله على قلبه». ومنها: أن يقطع ميراث وارثه من تركته، أو يَدُله على ذلك، ويعلمه من الحيل ما يخرجه من الميراث. ومنها: الغلو في المخلوق حتى يتعدَّى به منزلته، وهذا قد يرتقي من الكبيرة إلى الشرك.
728 - وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والغلو، وإنما هلك من كان قبلكم بالغلو» .
729 - ومنها: الحسد في السنن: أنه يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطب.
730 - ومنها المرور بين يدي المصلي، ولو كان صغيرة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال فاعله، ولم يجعل وقوفه عن حوائجه ومصالحه أربعيٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }( آل عمران: 7) فقال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابَهَ منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم».
753 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } (مريم: 28) فقال: «كانوا يُسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قومهم» .
754 - وفي الترمذي أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } ( الصافات: 147) كم كانت الزيادة؟ قال: «عشرة آلاف» .
755 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو ثعلبة عن قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ( المائدة: 105)، فقال: «ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحاً مُطاعاً، وهوًى مُتبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام؛ فإن من ورائكم أياماً، الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين يعملون مثل عملكم» .
756 - وسئل صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ فقال: «وآدم بين الروح والجسد» .
757 - وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف كان بَدْء أمرك؟ فقال: «دعوة أبي إبراهيم، وبُشرَى عيسى، ورؤيا أمي، رأت أنه خرج منها ناور أضاءت له قُصور الشام» .
758 - وسأله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من النبوة؟ قال: «إني لَفي الصحراء ابن عشرين سنة وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها لأحد قط، وأرواح لم أجدها لخَلق قَطّ، وثياب لم أرها على خلق قط، فأقبلا يمشيان حتى أخذ كل منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مساً، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فحوى أحدهما صدري، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلَّ والحسد، فأخرج شيئاً كهيئة العَلقة ثم نبذها فطرحها، ثم قال له: أدخِل الرأفة والرحمة،، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال: اغدُ سليماً، فرجعت بها رِقة عَلى الصغير، ورحمة على الكبير» .
759 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: «القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث» .
760 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن أحب النساء إليه، فقال: «عائشة» ، فقيل: ومن الرجال؟ فقال: «أبوها» ، فقيل: ثم مَن؟ قال: «عمر بن الخطاب» رضي الله عنهم.
761 - وسأله صلى الله عليه وسلم علي والعباس: أي أهلك أحب إليك؟ قال: «فاطمة بنت محمد» ، قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك؟ قال: «أحب أهلي إلي مَن أنعم الله عليه وأنعمتُ عليه أسامة بن زيد» ، قالا: ثم مَن؟ قال: «علي بن أبي طالب» . قال العباس: يا رسول الله جعلت عمك آخرهم، قال: «إن علياً سبقك بالهجرة» .
762 - وفي الترمذي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: «الحسن» رضي الله عنه «والحسين» رضي الله عنه.
763 - وسئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «الحب في الله والبغض في الله» .
764 - وسئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة كثيرة الصيام والصلاة والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: «هي في النار» ، فقيل: إن فلانة، فذكر قلة صلاتها وصيامها وصدقتها، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: «هي في الجنة» .
765 - وسألته صلى الله عليه وسلم عائشة فقالت: إن لي جارين فإلي أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك باباً» .
766 - ونهاهم عن الجلوس بالطرقات إلا بحقها، فسئل عن حق الطريق، فقال: «غَض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» .
767 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن لي مالاً ووالداً، وإن أبي احتاج مالي، فقال: «أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم» .
768 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن الهجرة والجهاد معه، فقال: «ألك والدان» ؟ قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسِنْ صُحْبَتَهما» .
769 - وسأله صلى الله عليه وسلم آخر عن ذلك، فقال: «ويحك أحية أمك» قال: نعم، قال: «ويحك، الزم رجلها فَثمَّ الجنة» .
770 - وسأله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار: هل بقي عليَّ من بر أبويَّ شيء بعد موتهما؟ قال: «نعم، خِصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلا من قِبَلهما؛ فهو الذي بقي عليك من بِرِّهما بعد موتهما» .
771 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما حَقُّ الوالدين على الولد؟ فقال: «هما جنتك ونارك» .
772-ـ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم، ويسيئوني، وأعفو عنهم، ويظلموني، أفأكافئهم؟ قال: «لا، إذاً تكونوا جميعاً، ولكن خذ الفضل وصِلهم، فإنه لن يزال معك ظهير من الله ما كنت على ذلك» .
773 - وعند مسلم: «لَئِنْ كنت كما قلت فكأنكما تَسِفهم الملَّ، ولن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك» .
774 - وسئل صلى الله عليه وسلم: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: «يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا لبس، ولا يضرب لها وجهاً، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت» .
775 - وسأله صلى الله عليه وسلم فقال: أستأذنُ على أمي؟ قال: «نعم» ، فقال: إني معها في البيت، فقال: «استأذن عليها» ، فقال: إني خادمها، قال: «استأذن عليها، أتحب أن تراها عُرْيانة» ؟ قال: لا، قال: «استأذن عليها» .
776 - وسئل عن الاستئناس في قوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( النور: 27) قال: «يتكلم الرجل بِتَسْبيحة، وتكبيرة، وتحميدة، ويَتنَحْنَحُ ويؤذن أهل البيت» .
777 - وعطس رجل فقال: ما أقول يا رسول الله؟ قال: «قل: الحمدُ لله» ، فقال القوم: ما نقول له يا رسول الله؟ قال: قولوا له: «يرحمك الله» ، قال: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قل لهم: «يَهْدِيكم الله ويصلح بالكم» .  

ISLAMICBOOK.WS © 2022  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق